قمة الأعمال الكبيرة والتحديات

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما يفتتح صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة أعمال قمة مجلس التعاون التاسعة عشرة في ابوظبي اليوم, ستعود العقول والانظار والافئدة على امتداد المنطقة وعالمنا العربي وعبر الحدود الى عواصم العالم, لتتابع بمزيد من الاهتمام وقائع القمة وترصد نتائجها, ولتحلل كل فقرة وكل كلمة ترد في بيانها الختامي المرتقب . لا يعود هذا الاهتمام الى الرصيد الكبير الذي راكمته القمم الثماني عشرة الماضية فحسب, وانما الى الخصوصية التي تنفرد بها قمة اليوم, فهي تنعقد عند منعطف اقتصادي وسياسي يجعلها بحق قمة الاعمال الكبيرة وايضا قمة التحديات التي لاينقصها الصعوبة ولا التعقيد ولا التشابك. غير ان آلية عمل قمة مجلس التعاون باعتبارها تتويجا لمسار الجهود الكبيرة المبذولة على مستوى دول المجلس وامتدادا عبر الافق العربي, والمدى العالمي, هي ذاتها التي تجعل هذه القمة المنتدى الاكثر ملاءمة والاعظم قدرة على التعامل مع جدول اعمال يتسم بالاهمية البالغة على نحو ما تشير كل الدلائل والوقائع والحقائق والارقام. واذا كان تاريخ الامم يؤكد ان اعظم منعطفات تطورها قد مر بتكريس تحويلها الى كيانات كبيرة حقا من خلال جعل مقدمات هذا الكيان جزءا من الحياة اليومية للافراد والجماعات والناس العاديين الذين يعيشون تحت سماء هذه الأمم, فإن هذا يدفعنا الى ان نتطلع الى إطلالة تاريخية بكل المعايير ننتظر جميعا صدورها عن القمة, وهي المتعلقة بإقرار البرنامج الزمني لإقامة الاتحاد الجمركي لدول مجلس التعاون, الأمر الذي يكرس المزيد من القوة والاندماج لدول المجلس في ذاتها وأيضا من خلال مواردها وعملها وتعاملها مع الكتل الدولية المناظرة التي تشكل نسيج الحياة الدولية المعاصرة. وغير بعيد عن هذه الخطوة التاريخية المنتظرة من جانب القمة, يتطلع المراقبون الى اقرار قادة دول المجلس لوثائق الاطار العام للاستراتيجية السكانية لدول المجلس واستراتيجية التنمية الشاملة بعيدة المدى بها وغيرها من الوثائق ذات الاهمية المستقبلية الكبيرة. ولا تنتهي قائمة الاعمال الاقتصادية المدرجة في مناقشات القمة عند هذا الحد, وانما هي تمتد الى آفاق أبعد, وليس من قبيل الصدفة تأكيد سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الاعلام والثقافة ان القمة ستناقش انخفاض اسعار النفط العالمية وسبل تعزيزها. هذا التأكيد يضرب جذوره في أكثر من بعد واحد, جدير بالتوقف عنده طويلا, فحضور عدد من وزراء النفط بالدول الاعضاء للقمة تأكيد على الأولوية المعطاة لحرص دول المجلس على التحرك الايجابي في مواجهة اوضاع في الاسواق العالمية تؤدي الى انخفاض معدله 30% في اسعار النفط, وهو انخفاض قياسي ربما منذ عقدين من الزمان أو أكثر, ومن الغني عن البيان عمق التأثير السلبي الذي يتركه على اقتصادات دول المجلس. هذا الاستعداد من جانب دول المجلس لتحرك ايجابي, على صعيد جبهة الأسعار, لا ينبغي ان يفسر بحال على انه قبول بتراجع أنصبة دول المجلس في السوق العالمية للنفط, وإنما الرؤية الصحيحة له تمر بادراك انه تحرك ايجابي لضمان سعر عادل للنفط بما لا يضر بمصالح أي من الاطراف المشاركة في معادلة الانتاج/الاستهلاك النفطية على مستوى العالم. هل يصب هذا كله في التأكيد على ما يشير اليه بعض المراقبين الدوليين من ان القمة التي تبدأ أعمالها اليوم هي (قمة اقتصادية) ؟ ليس تماما, ففي منطقة على هذا القدر من الأهمية الاستراتيجية, على كل الاصعدة, يبدو الفصل بين السياسة والاقتصاد ترفا لا يملك أحد ممارسته, وتتأكد هذه الحقيقة على نحو يفوق حضورها البديهي في أي منطقة أخرى من العالم. من المؤكد ان جدول أعمال قمة اليوم, كما يكرس الحرص على مخاطبة هذه الاهتمامات وتلك الهموم الاقتصادية للمواطن في دول مجلس التعاون, ينطلق بالقدر نفسه من الحرص والاهتمام ليخاطب القضايا السياسية التي تشكل الأفق الأكثر أهمية والحاحا لهذا المواطن, لأن كل ما يجري تحت هذا الأفق يتعلق بالأمن والدفاع بدرجة أو بأخرى. من هنا تبرز أهمية التجديد, مؤكدا على الثوابت التي حرصت دول المجلس على التشديد عليها, ولكن هذه المرة مع المضي الى قطع خطوات أبعد في هذا التشديد. فدول المجلس حريصة على العلاقات الافضل مع الجميع, ولكن من دون ان يعني ذلك بأي حال التنازل عما تراه حقوقا تكرسها الجغرافيا ويؤكدها التاريخ على الارض. ودول المجلس تؤكد ــ كما سبق لها ان أكدت ـ ضرورة التزام الدول المعنية بالقرارات الدولية, باعتبار هذه القرارات هي المدخل الوحيد لعودة الدول المعنية المخاطبة بهذه القرارات الى الساحة الدولية, بعيدا عن العزلة التي اوقعت فيها نفسها بنفسها. ودول المجلس حريصة على تأكيد كل ما من شأنه زيادة الترابط والتضامن فيما بينها والمضي بهما الى آفاق أبعد, وهي مسيرة تمر أول ما تمر بالتغلب على الخلافات الحدودية, التي تتعدد وسائل حسمها على نحو لا يدع مجالا لاستمرارها, في هذا المنعطف من تاريخ المنطقة. ودول المجلس معنية باستخدام عملية السلام في الشرق الاوسط, وهي حريصة في الوقت نفسه على تأكيد ان هذا الاستمرار لا ينبغي بحال ان يكون على حساب حقوق الشعب الفلسطيني. ويبقى من المؤكد أخيرا, ان البيان الختامي لقمة اليوم, حيث يصدر, ستكون مسيرة تطور المنطقة قبله مختلفة عنها بعده, لأن ما يجري بحثه اليوم هو ـ بكل المعايير ــ صنع للتاريخ. (البيان)

Email