دونالد ترامب وحرفيّة الدعاية السياسية

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تكشف الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020 خطأ الفكرة الشائعة بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يقع تحت تأثير خارجي. فرغم أنه خسر الانتخابات، فإن أداءه - الذي حصل على ملايين الأصوات أكثر مما فعل في عام 2016 - يشير إلى أنه سيد الدعاية. في الواقع، قد تُصبح حملة ترامب الانتخابية الكاذبة نموذجاً جديداً لكيفية عمل الديمقراطيات التي تعمل وفق سلوكيات نفعية لاختيار قادتها في القرن الحادي والعشرين.

في الواقع، لا يمكن إنكار براعة ترامب في استخدام شبكات التواصل الاجتماعي، حيث يصدر تياراً مُتوقعاً من الخطابات شبه المُتماسكة والمليئة بالمشاعر لإثارة الشكوك حول الحقائق الثابتة، في حين يعمل على تشويه سمعة خصومه وتعظيم مكانته.

أصبح هذا السحر الرقمي الأسود - الذي تُضخمه منصات شبكات التواصل الاجتماعي وقناة فوكس نيوز الإخبارية من أجل الربح - عنصراً أساسياً في أسلوب «القيادة» الذي ينتهجه ترامب. مع استمرار تراجع شعبيته، قد يحاول بوتين اتباع أسلوب مُماثل.

بالإضافة إلى أساليب ترامب المُميزة التي تتمثل في تعظيم الذات واستخدام الحيل الديمقراطية، فإنه يتمتع بقدرة فريدة على استخدام الدعاية بشكل غير ملائم لتجنب جميع أشكال المساءلة. لا شك أن الحكام المستبدين الآخرين في العالم يُجيدون أيضاً التلاعب بالرأي العام.

الدعاية الحديث والشامل الذي يتبعه ترامب: «بصورة خيالية». لقد استفاد ترامب وساعد في تحقيق ثقافة سياسية مُزدهرة، حيث يتم تحديد أي نقاش أو محادثة أو حدث من خلال مناشدات عاطفية ومُنفصلة تماماً عن المعلومات الموضوعية. لا يوجد شخص عظيم يختبئ وراء الستار هنا. ترامب هو الساحر الذي يقف وسط المسرح، وأقل من نصف الناخبين الأمريكيين يحبون ما يرونه، أو يفضلون الوهم على الواقع.

يجب النظر إلى جهود ترامب الناجحة لتقليص دعم الأمريكيين من أصول إسبانية (الهسبان) لجو بايدن. في ولاية فلوريدا، تمكن ترامب من إقناع جزء من السكان الأمريكيين اللاتينيين (كما فعل سابقاً مع الفقراء البيض) بأنه أملهم الوحيد على المستوى الاقتصادي.

من خلال تحديد الفجوات بين اليسار التقدمي ويسار الوسط للتحالف الديمقراطي، استهدفت حملة ترامب عدداً كبيراً من سكان مقاطعة ديد من المهاجرين الكوبيين والفنزويليين الذين حملوا تصوراً قاتماً لبايدن باعتباره حصان طروادة «للاشتراكية»، مُستغلة الكراهية العميقة للأنظمة في هافانا وكراكاس.

على الرغم من أن بايدن لا يزال يحظى بدعم الجزء الأكبر من الناخبين من أصل إسباني في الولاية، فقد نجح ترامب في إقناع شريحة مُهمة بأنه هو وحده قادر على الدفاع عن الحرية الكوبية والفنزويلية. نقلاً عن سياسة الوفاق التي انتهجتها إدارة أوباما مع كوبا، أشارت حملة ترامب إلى أن بايدن سيعمل على خداع الأمريكيين الكوبيين عن طريق مكافأة الجزيرة المنبوذة.

بشكل عام، أثار ترامب ببراعة الغضب والاستياء بين السكان البيض - لا سيما أولئك غير الحاصلين على شهادات جامعية - وغالباً ما يستخدم موقع تويتر للإدلاء بتصريحات تُشبه إلى حد كبير تصريحات التحريض على العنف ضد الأمريكيين من أصل أفريقي والسياسيين الديمقراطيين ومسؤولي الانتخابات. من خلال نشر «بياناته الكاذبة على شبكات التواصل الاجتماعي» بشكل مُستمر، سمح ترامب لملايين الأمريكيين البيض بالتصرف بناءً على دوافعهم العنصرية والأكثر تطرفاً.

وقد حرر ترامب أنصاره من عبء التفكير في الحقائق العلمية، أو حتى التفكير المنطقي. بفضل المثال الذي وضعه ترامب، فإن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي يشكك فيها البعض في الحاجة إلى ارتداء أقنعة الوجه والحفاظ على التباعد الاجتماعي أثناء الوباء.

في أمريكا فقط يُنظر إلى اتخاذ الاحتياطات اللازمة لحماية المرء لنفسه ولباقي أفراد المجتمع على أنه علامة ضعف أو «اشتراكية». علاوة على ذلك، تُعد إجراءات إدارة ترامب في التعامل مع الوباء أسوأ من تلك التي اتخذتها حكومة أي دولة أخرى، مما أدى إلى ما يقرب من 240 ألف حالة وفاة، وهذا العدد في ارتفاع مُستمر.

وبطبيعة الحال، يميل جميع السياسيين إلى إلقاء اللوم على الآخرين عن إخفاقاتهم. اعتاد الاتحاد السوفييتي أن يسند تراجعه الواضح إلى رغبة مواطنيه الفاسدة في ارتداء الجينز والاستماع إلى موسيقى الجاز الأمريكية.

بدلاً من معالجة أوجه القصور الخاصة بهم بعد انتخابات عام 2016، اختار الديمقراطيون إلقاء اللوم كله على هيلاري كلينتون لفشلها في التعامل مع تدخل بوتين وروسيا في الانتخابات. لكن الولايات المتحدة لم تدمر الاتحاد السوفييتي، بل النظام السوفييتي هو الذي دمر نفسه. كما لم ينتخب الكرملين ترامب، بل تم اختياره من قبل الناخبين الأمريكيين.

عندما وصف الفيلسوف الفرنسي جان بودريل الولايات المتحدة في عام 1986، ذكر نوعاً من «الواقع المُضخّم»، حيث تصبح الأسطورة والأداء والمحاكاة غير قابلة للتمييز عن العالم الحقيقي. تعمد رؤية ترامب الخيالية إلى جعل أمريكا «عظيمة مرة أخرى» على هذا النوع من الانهيار المعرفي. إن ترامب هو ملك الواقع المُضخّم «ما بعد الحقيقة»، وهو يستحضر عالماً يكون فيه أنصاره ضحايا مؤامرات مختلفة ومُخططات شريرة عن أسلوب حياتهم، والتي لا يستطيع إنقاذهم منها إلا ترامب.

لا شك أن لدينا جميعاً رغبات مُظلمة، لكن معظمنا لن يسعى لتحقيقها في الواقع. يمكننا القول إن ضبط النفس هذا هو السمة المُميزة للشخص المُتحضر. ومع ذلك، نجح ترامب في إقناع عشرات الملايين من الأمريكيين بتبني أفكارهم الشريرة - وأنه لا حاجة للحقيقة واللياقة والديمقراطية. لقد انحدرت العدمية إلى الجمهورية، ولا يمكن للأمريكيين إلقاء اللوم على أحد سوى أنفسهم.

 

 

Email