رؤية عالمية مشتركة لبناء مؤسسات فعالة

ت + ت - الحجم الطبيعي

من منظور جيل ما بين الحربين في النصف الأول من القرن العشرين، كانت أزمات اليوم لتبدو عادية من غير ريب.

فقد عاينوا ما هو أفظع كثيراً: الحربان الأكثر دموية في تاريخ البشرية، والبطالة الجماعية، والفقر المدقع الذي خلّفته فترة الكساد العظيم (الذي لا تزال فترات الركود التي شهدها هذا القرن تبدو ضئيلة مقارنة به)، وتهديدات أشد خطورة للديمقراطية في هيئة الشيوعية السوفييتية، والفاشية، واشتراكية هتلر الوطنية.

ومع ذلك، قد يكون حل مآزق اليوم أشد صعوبة، لأن أغلبها يستلزم التعامل معه من خلال الحوكمة العالمية، التي لم تعد متوفرة. صحيح أن العولمة ساهمت أيضاً في توسيع فجوات التفاوت وزعزعة استقرار الاقتصادات الوطنية في أوائل القرن العشرين.

وأن الكساد العظيم كان إلى حد كبير أزمة جهازية نشأت في الولايات المتحدة، وابتليت بها معظم البلدان الأخرى عن طريق الأسواق الدولية. ولكن في نهاية المطاف، كانت المشكلات الجوهرية التي احتاج جيل ما بين الحربين إلى حلها على مستوى الدولة القومية.

أدرك صناع السياسات في ذلك الوقت أن عدم استقرار الاقتصاد الكلي، واقتصادات السوق غير المنظمة كانت الأسباب الجذرية وراء أغلب مشكلاتهم. ومن خلال التجريب مع العلاجات المؤسسية وصياغة أفكار جديدة، أرسوا الأساس لدولة الرفاهة الديمقراطية الاجتماعية. وأصبحت القاعدة إدارة الاقتصاد الكلي، والضرائب التصاعدية وإعادة التوزيع، وضوابط السلامة في محل العمل، ومزايا التأمين الصحي والتقاعد التي تقدمها الحكومة، وشبكة الأمان الاجتماعي للأقل حظاً.

تشكلت دولة الرفاهة الحديثة لأول مرة في الدول الإسكندنافية ثم ترسخت بشكل أكبر في تقرير بيفردج الصادر في المملكة المتحدة عام 1942. وعلى مدار العقد التالي، ظهرت رؤى مماثلة واضحة عبر أوروبا القارية. وفي كل حالة، كانت السياسات المقترحة تندرج بالكامل ضمن اختصاص الحكومات الوطنية، وكان من الممكن تصميمها على نحو يعمل على تعزيز الديمقراطية وتهميش القوى السياسية التي تسببت في اندلاع حربين عالميتين.

بطبيعة الحال، تخطت حتمية الحفاظ على السلام الحدود الوطنية؛ لكن هذا المشروع بدأ بضمان استقرار الاقتصاد الكلي والازدهار المشترك على المستوى الوطني. وكما تنبأ إيمانويل كانط في عام 1795، فإن الديمقراطية النشطة في الداخل كفيلة بتوليد التعاون في الخارج.

لكن قادة ما بعد الحرب علقوا آمالهم على ما يزيد على نظرية كانط. السؤال المطروح اليوم هو ما إذا كان من الممكن تكرار هذا الإنجاز المجيد من فترة ما بعد الحرب.

ساهمت العولمة في تأجيج المشكلة جزئياً لأن قواعدها صيغت بحيث يستفيد منها أصحاب الأعمال، ورأس المال المالي، والعمال من ذوي المهارات العالية، على حساب الجميع غيرهم.

تُـظـهِـر تجربة ما بعد الحرب أن بناء مؤسسات فـعّـالة يستلزم أولاً توفر رؤية مشتركة.

ومع ذلك، هذا هو على وجه التحديد ما يفتقر إليه المجتمع الدولي حالياً. وما يزيد الطين بلة أن المؤسسات المتعددة الأطراف الضعيفة بالفعل من المرجح أن تتحمل قدراً أكبر من المعاناة في المستقبل القريب، حيث يعمل تخصيص لقاحات «كوفيد 19» على تعميق خطوط الصدع القائمة بين البلدان والمناطق.

كان بإمكاننا أن نتجنب إخفاقات الحكم التي أوصلتنا إلى هذه النقطة. وعلى الرغم من التحذيرات المسهبة، فإننا لم نتعامل بجدية حتى الآن مع التحديات العالمية التي تنتظرنا، ناهيك عن الاستعداد لها. ربما تُـربِـك مشكلاتنا الحالية جيل ما بين الحربين، لكنه سينبهر بلا أدنى شك إزاء الفوضى التي خلقناها لأنفسنا.

* أستاذ علوم الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

 

Email