مدن ما بعد الوباء

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

هل تمكن فيروس «كوفيد 19» بالفعل من القضاء على المدن الضخمة؟ لقد ساهم الوباء بلا شك في إعادة تشكيل العولمة وتحويل محاور الاقتصاد العالمي إلى بؤر للعدوى وجعل مستقبلها مُهددًا وغير واضح. وقد سلطت الأزمة الضوء أيضًا على نقاط الضعف الحالية في المدن الكبرى والعمليات المتسارعة التي كانت جارية بالفعل.

بحلول بداية هذا القرن، تحولت مدن مثل لندن ونيويورك وهونج كونج إلى نقاط مركزية لتدفق الأموال والأشخاص والأفكار في جميع أنحاء العالم. فهي لم تكن مجرد مراكز مالية، بل أيضًا عواصم ثقافية، وأماكن إبداعية تعتمد على ثروة ورعاية المصرفيين. توافد رجال الأعمال والمبدعون إلى هذه المدن الضخمة على أمل إعادة تشكيل أنفسهم والعالم.

ومع ذلك، تحتاج المدن الكبرى أيضًا إلى مجموعة واسعة من العمال الآخرين ذوي المهارات المختلفة. ولذلك، فقد توافد المهاجرون إليها أيضًا سعياً وراء جني المال أو مجرد فرص جديدة لأطفالهم. ويحلم الكثيرون بالانضمام إلى النخبة المبدعة. أصبحت المدن العالمية المزدهرة موطنًا للعديد من الناس من مختلف الجنسيات.

أدى هذا حتماً إلى خلق توترات جديدة مع المناطق النائية. أصبح الناس في الضواحي أو المناطق الريفية يرون الحياة الحضرية على أنها غير قابلة للتحقيق أو غير مرغوب فيها.

أدت أسعار العقارات الباهظة في المدن الكبرى إلى ضعف الرفاهية الاجتماعية. إن النخبة العالمية هي فقط القادرة على تحمل تكاليف المساكن عالية الجودة، الأمر الذي يجعل جميع المقيمين الآخرين يعيشون في أماكن مكتظة أو خارج قلب المدينة. يفتقر العمال الذين يشغلون وظائف مؤقتة أو موسمية في كثير من الأحيان إلى سكن مستقر، وقد بدأ انتشار وباء التشرد قبل انتشار الوباء بفترة طويلة.

في الواقع، ولّد انتشار وباء «كوفيد 19» الخوف من الإصابة بالعدوى ونزوحاً جماعياً للأثرياء. وتعرضت الاقتصادات المحلية في المناطق ذات الدخل المرتفع للانهيار. وقد جلب الوباء نوعًا جديدًا من الاستقطاب الاجتماعي حيث أُجبر العاملون في مجال الرعاية الصحية والنقل العام وتجارة التجزئة على تعريض أنفسهم لخطر الإصابة بالعدوى أو التضحية بأرباحهم.

وعلى النقيض من ذلك، بدأ العاملون في مجال المعرفة ببساطة في العمل عن بُعد وطلب الخدمات عبر الإنترنت، ولا يفتقرون إلا إلى فرص التفاعل الجسدي.

في الآونة الأخيرة، ساهم الفيروس في تعزيز البحث عن بدائل للمدن الضخمة عالية التكلفة في فترة ما قبل الجائحة. في الواقع، إن التحول من المدن الخطيرة والمزدحمة ليس بالأمر الجديد. أدى الطاعون الدبلي في أوراسيا في منتصف القرن الرابع عشر، والذي يُعد الوباء الأكثر كارثية على الإطلاق، إلى هروب مُماثل.

لفهم روايات بوكاتشيو عن الأرستقراطيين الفلورنسيين الشباب المنغمسين في الملذات الفارين إلى تلال فيسولي، يجب ربط الماضي بالحاضر. في هذه المرحلة، تسبب الطاعون في إحداث تحول طويل الأمد وزاد من حدة الصراع الطبقي في مدينة فلورنسا، حيث انقلب العمال العاديون ضد النخبة الحضرية.

لكن الموازاة التاريخية الأكثر لفتًا للنظر لتراجع المدن الكبرى اليوم هي مدينة البندقية. قبل الأزمة الحالية بفترة طويلة، كثيرًا ما استحضر السياسيون الإيطاليون والأوروبيون غرق المدينة في البحيرة كرمز لغياب الإصلاح.

لطالما مثلت المدينة الخالدة في رواية توماس مان بعنوان «الموت في البندقية»، مُعضلة عالمية. بعد أن بلغت ذروة ثرواتها في أواخر القرن السادس عشر، عانت من ركود طويل الأمد بسبب تغيير الطرق التجارية، والمنافسة الجديدة من المدن الفقيرة والأكثر ديناميكية، والقرب من الأمراض.

ومع ذلك، يمكن أن تكون مدينة البندقية أيضًا نموذجًا لمدينة كبرى ما بعد وباء «كوفيد 19». كما يذكرنا المؤرخون الاقتصاديون الحديثون، فإن قصة هذه المدينة ليست مجرد قصة انهيار صناعي وتجاري في القرن السابع عشر. بدلاً من ذلك، انتقل إنتاج السلع الفينيسية الأكثر شهرة إلى المناطق النائية - إلى مدن أصغر مثل تريفيزو وفيتشينزا - مما أدى إلى قيام جمهورية البندقية ببناء علاقة سياسية جديدة مع المناطق المحيطة بها.

اليوم، أعاقت الصراعات السياسية القائمة الاستجابة الشاملة للوباء. كانت المدن العالمية بطبيعتها عُرضة بشكل خاص لخطر الإصابة بالفيروس، وعندما اجتاح المرض هذه المدن، عمد قادتها وسلطاتها الوطنية إلى إلقاء اللوم على بعضهم البعض.

عارض عمدة لندن صادق خان باستمرار إستراتيجية الإغلاق العشوائي التي فرضها رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون. يواجه عمدة مدينة نيويورك صراعًا ثلاثيًا مع حاكم نيويورك وترامب، الذي استغل أزمة المدن الأمريكية لتحويل الانتباه عن سوء إدارته. في حالة هونغ كونغ، كان الفيروس بمثابة ذريعة للصين لتأكيد سلطتها على المنطقة من خلال اعتماد قانون أمني شامل جديد.

غالبًا ما يُعتقد أن إحياء الديمقراطية الحقيقية هو الحل الأفضل للمشاكل المرتبطة بالعولمة التكنوقراطية. ولكن إذا كانت للديمقراطية أي جاذبية، فسيتعين على الحكومات الديمقراطية أن تكون أكثر فاعلية ليس فقط في مكافحة الفيروس ولكن أيضًا في مواجهة التحديات الأخطر مثل الفقر والإسكان غير الميسور التكلفة.

بدون إدارة فعالة، لا بد أن تُواجه المدن الكبرى نفس مصير المدن الضخمة في الماضي. يمكن أن تواجه لندن ونيويورك مصيرهما الخاص. لكن هذه المرة لن نشهد انتعاشًا في المناطق النائية.

 

 

Email