كيف نمنع الجائحة من قلب حياتنا رأساً على عقب؟

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

دفعت أزمة فيروس «كورونا» (كوفيد 19) العلماء والحكومات وخبراء الصحة للتباري في ما بينهم، بغية فهم العلاقة بين انتقال الأمراض حيوانية المصدر (ويُقصد بها تلك التي تنتقل من الحيوانات إلى البشر)، والتقلب البيئي ونماذج التنقل البشري والتجارة.

وفي خضم هذا المسعى، بات واضحاً بشكل مؤلم مدى جهلنا بالعالم من حولنا، لكن رغم عجزنا جميعاً عن التنبؤ بمصداقية بما سيأتي بعد ذلك، فإن بوسعنا قطعاً الاستعداد بصورة أفضل للمرحلة التالية من حياة العالم في ظل (كوفيد 19) غير أن رؤية المرض وتأثيراته من خلال عدسات متعددة ــ وبائية واقتصادية وسياسية واجتماعية ــ تعوق رؤيتنا إلى حد ما. وبدون نهج منتظم وشامل، سيظل القادة يفتقدون أجزاء مهمة من اللغز.

ينبغي لمثل هذا النهج أن يبدأ برفض الفجوة المضللة بين الإنسان والطبيعة. لقد تسبب مصطلح «الأنثروبوسين» ــ أو عصر الإنسان ــ الذي يُطبَّق الآن على عصرنا، في إعطاء إحساس زائف بالسيطرة على البيئة.

لكن جائحة (كوفيد 19) أجبرتنا على الاعتراف بأن الأنثروبوسين ما هو إلا حلقة ارتدادية قاسية يقوم سلوكنا، من خلالها بإطلاق سلسلة من ردود الفعل التي تسرع وتيرة كل من تغير المناخ وانتشار الأوبئة. ومن دون وضع حدود فاصلة بنيوية أو جيوسياسية بيننا والعالم الطبيعي، لن تجدي النزعة القومية أو نزعة الحماية في وقف تلك العملية.

وفي ما يتعلق بهذا الأمر، نقول إنه لم تعد لدينا رفاهية تجاهل المخاطر الهامشية ــ وهي الأحداث منخفضة الاحتمالية شديدة التأثير، التي تظهر على هامش أي توزيع محتمل. وفي الأنظمة المعقدة، تكون تلك الإشارات الضعيفة أكثر اتصالاً بالكل، وقد تكون تداعياتها مضاعفة وليست فقط متناسبة مع قوة أسبابها في رد الفعل.

لقد شهدنا شيئاً من هذا القبيل في عام 2008 عندما تحول انهيار الرهن العقاري الثانوي عالي المخاطر في الولايات المتحدة بسرعة إلى أزمة مالية عالمية. وها نحن نرى الأمر عينه يحدث مع أزمة (كوفيد 19)، التي جعلت حركة التنقل في العالم شبه متوقفة وقوضت جزءاً كبيراً من اقتصاد العالم.

لم تكن أي من الأزمتين راجعة إلى أحداث «البجعة السوداء» (أحداث غير متوقعة لندرتها)، لأن الخطورة كانت معروفة مسبقاً على نطاق واسع. ورغم إخفاقنا في الاستفادة من ذلك التوقع المسبق، يملي علينا مبدأ التحوط تنفيذ إجراءات لتقليل مثل تلك المخاطر السلبية حال ظهورها.

ماذا يعني هذا بالنسبة للفترة المقبلة الحاسمة؟ لقد أثار قدوم الصيف في النصف الشمالي من الكرة الأرضية موجة من التكهنات بأن الطقس الأعلى حرارة ورطوبة ــ أي ما زاد عن نطاق الحرارة الأمثل للفيروس وهو ما بين 5 و11 درجة مئوية ــ سيقلل معدل العدوى، لكن حتى لو صحت العلاقة المأمولة بين (انخفاض) انتقال العدوى والطقس الدافئ، فقد لا تكون تلك العلاقة سببية أو مباشرة.

فضلاً عن ذلك، لابد لأي تقييم للأشهر المقبلة أن يضع في الاعتبار النمط السلوكي الموسمي، فالطقس الحار وإن كان يدفع المزيد من الناس للخروج، لكنه أيضاً يعني زيادة في استخدام مكيفات الهواء داخل المنازل والمباني، بشكل يحاكي الظروف المناخية المشجعة لانتشار الفيروس. وستمدنا البيانات التي يجب أن نجمعها في الأشهر المقبلة بتصور لأمثل الطرق للموازنة بين الظروف الطبيعية المقيدة للمرض والظروف الاصطناعية الممكِّنة له.

هنا نود الإشارة إلى ثلاث قضايا ينبغي ألا تغيب عن نظر الجميع خلال الأشهر المقبلة، الأولى: كانت إعادة الفتح المرحلي في دول أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا مصحوبة بإرشادات التباعد الاجتماعي.

ونظراً للكثافة السكانية في المدن الكبرى في تلك المناطق، لن تُجدي درجات الحرارة المرتفعة وحدها في القضاء على الفيروس، وبالتالي لا بديل عن اتباع تعليمات المحافظة على الصحة العامة. لكن حتى الآن، لم يحدث ذلك في معظم مناطق الولايات المتحدة.

القضية الثانية: تعد القدرة على التطور السريع إحدى الصفات المميزة للسلالات الفتاكة مثل فيروس SARS-CoV-2، وهو الفيروس المسبب لـ(كوفيد 19)، فقد تظهر سلالات جديدة أشد فتكاً رغم الظروف المناخية الجيدة.

أخيراً، مهما يحدث في الشهرين أو الأشهر الثلاثة التالية، سيكون الشتاء بعدها على الأبواب، وفي غياب لقاح فعال ضد سلالات فيروس SARS-CoV-2 السائدة ــ إذ سيستغرق التوصل للقاح مدة لا تقل عن 12 إلى 18 شهراً للأسف ــ تبدو احتمالية حدوث موجة ثانية من العدوى أشد فتكاً أمراً مؤكداً.

يُـعَـد وضع نماذج للتفاعلات البعيدة المدى والمعقدة بين علم الأحياء والمناخ والمجتمع من الأساليب التي تعيننا على توقع السبيل الذي قد يسلكه الفيروس، لكن نظراً لكثرة السيناريوهات المحتملة المطروحة، يجب تفسير كل تلك النماذج بحذر.

لذا يجب على الزعماء السياسيين المنوط بهم استخدام هذه النماذج بالصورة الملائمة أن يثقوا في الهيئات العلمية، بدلاً من تكميمها أو الانتقاء من نتائج أبحاثها ما يناسب أجنداتهم الحزبية الضيقة، فلن تستطيع دولة تحمل قائد يسير خلف «حدسه»، كالرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره البرازيلي جايير بولسونارو.

لم تتوافر لدينا بعد المعرفة الكافية للعلاج من (كوفيد 19) أو الوقاية منه، لكن المعارف المتراكمة لدينا بالنظم الإيكولوجية (البيئية) وعلم الفيروسات وعلم الوراثة، وديناميكا السوائل، وعلم الأوبئة، وعلم الإنسان، والطب السريري، وعلم الأحياء الدقيقة، وعشرات الفروع والتخصصات العلمية الأخرى، تمدنا بثروة من الأفكار والرؤى القادرة على منع الجائحة الحالية من قلب حياتنا المعاصرة رأساً على عقب، وذلك فقط إذا أحسنّا استغلالها.

* الشريك المدير لمؤسسة أطلس للابتكارات البحثية، وزميل رفيع المستوى في كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا.

** مؤسس شركة فيوتشر ماب، ومؤلف كتابي الربط الرقمي الجغرافي والمستقبل آسيوي.

*** مؤسس المشروع الوطني الجغرافي الجينوغرافي ومؤلف كتابي رحلة الإنسان وأصول عميقة.

مايكل فيراري *

باراج خانا **

سبنسر ويلز ***

Email