الركود المالي ومواجهته عبر التقشّف

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

لدينا نظريتان متناقضتان للسياسة المالية المناسبة في الركود. وأولاهما تقول (وهي لجون ماينارد كينيز)، إن التخفيض المعلن في الإنفاق العام يخبر رجال الأعمال بأن دخلهم سيُخفض، لأن عدداً أقل من الناس سيشترون السلع والخدمات التي ينتجونها.

ولكن الأخرى (وصاحبها ألبرتو أليسينا، الذي يشغل منصب أستاذ بجامعة هارفارد) تقول إن التخفيض المعلن في الإنفاق العام يخبر رجال الأعمال أنه بإمكانهم توقع ضرائب أقل غداً، لذا، سينفقون أكثر اليوم.

ويجب أن يحدد القراء النظرية التي يرونها منطقية أكثر. وشخصياً، أفضل التوصيف الوارد في الكتاب الأخير التقشف: 12 خرافات مكشوفة: «التقشف أداة من... المصالح المالية - وليس حلاً للمشكلات التي تسببها».

لقد عاد أليسينا إلى النقاش بشأن العجز في الميزانية والتقشف والنمو. ففي عام 2010، أخبر أليسينا وزراء المالية في أوروبا أن «العديد من التخفيضات الحادة في عجز الميزانية كانت مصحوبة بنمو مطرد بدلاً من ركود، كما أنه حدث بعدها على الفور، حتى على المدى القصير».

والآن، كتب أليسينا، بتعاون مع الزميلين كارلو فافير وفرانشيسكو جيافزي، كتاباً جديداً بعنوان سياسة التقشف: متى تنجح ومتى لا، والذي حصل أخيراً على مراجعة إيجابية من زميله في جامعة هارفارد كينيث روجوف.

كتاب جديد، لحن قديم. إذ يستنتج فيه المؤلفون، باختصار، أنه «في بعض الحالات، تُعوَّض تكلفة الإنتاج المباشرة لخفض الإنفاق، عن طريق الزيادات في المكونات الأخرى للطلب الكلي». والنتيجة هي أن التقشف - تخفيض العجز في الميزانية، وليس الزيادة منه - قد تكون السياسة الصحيحة في حالة ركود.

وتعرض عمل أليسينا السابق مع سيلفيا أرداغنا في هذا المجال لانتقادات من قبل صندوق النقد الدولي وغيره من الخبراء الاقتصاديين بسبب اقتصاده القياسي الخاطئ، واستنتاجاته المبالغ فيها. وسيُبقى، بلا شك، هذا الكتاب الجديد، الذي يحلل 200 خطة تقشف لسنوات عدة، نُفِّذت في 16 دولة من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في الفترة ما بين 1976 و2014، أيضاً هواة المحاسبة منهمكون في العمل.

ولكن هذه ليست النقطة الرئيسية. إذ علاقة الترابط ليست علاقة سببية. إن ارتباط التقشف المالي بالنمو الاقتصادي لا يفسر شيئاً بشأن العلاقة الأساسية بينهما. هل يتسبب انكماش العجز في النمو الاقتصادي، أم أن النمو يتسبب في تقلص العجز؟

لا يمكن لجميع الاقتصادات القياسية في العالم أن تثبت أن أحدهما تسبب في الآخر، أو أن كليهما قد لا يكونان نتيجة لشيء آخر. وهناك ببساطة الكثير من المتغيرات المحذوفة - أي الأسباب المحتملة الأخرى لإحدى النتيجتين أو كليهما. ودائماً ما يبدأ ما يسمى بالدلالات الإحصائية بنظرية العلاقة السببية، والتي، انطلاقاً منها، «تُكَيِّف» البيانات لتلائمها من أجل الحصول على النتيجة التي يريدها المنظر.

وتستند نظرية أليسينا إلى ركيزتين مفاهيميتين. والركيزة الرئيسية هي أنه في حالة استمرار العجز، تتوقع الشركات والمستهلكون ضرائب أعلى، ومن ثم سوف يستثمرون ويستهلكون أقل. ومن ناحية أخرى، تشير تخفيضات الإنفاق إلى انخفاض الضرائب في المستقبل، مما سيحفز الاستثمار والاستهلاك.

وتفترض الركيزة التكميلية الثانية أن ارتفاع الدين العام يدفع المستثمرين إلى توقع التخلف عن السداد. ويفرض هذا التوقع رفع أسعار الفائدة على السندات الحكومية، مما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض الإجمالية. ويمكن أن يؤدي التقشف، عن طريق وقف نمو الديون، إلى «تخفيض كبير» في أسعار الفائدة، ومن ثم، فسح المجال لزيادة الاستثمار.

ولا يمكن اعتبار هذه الحالة التكميلية قاعدة عامة. فإذا كان لدى أي بلد بنك مركزي خاص به، وإذا كان يصدر عملته الخاصة، يمكن للحكومة أن تحدد قيمة أسعار الفائدة كما تريد، عن طريق إعطاء تعليمات للبنك المركزي بطباعة النقود.

وفي هذه الحالة، فإن انخفاض أسعار الفائدة لن يكون نتيجة التقشف، بل نتيجة التوسع النقدي. وهذا، بالطبع، ما حدث مع التيسير الكمي في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، ومنطقة اليورو. إذ بقيت أسعار الفائدة في أدنى مستوياتها لسنوات، حيث ضخت البنوك المركزية مئات المليارات من الدولارات والجنيه واليورو في اقتصاداتها.

والآن بقي لدينا الركيزة الأساسية لأليسينا: سيعزز، اليوم، الالتزام القوي بتخفيض الإنفاق العام الإنتاج، عن طريق إلغاء توقع فرض ضرائب أعلى غداً. والحجة نفسها تفسر لماذا، من وجهة نظر أليسينا، يستحسن تخفيض العجز عن طريق خفض الإنفاق بدلاً من زيادة الضرائب. وتعالج تخفيضات الإنفاق «مشكلة» النمو التلقائي لاستحقاقات «الرفاه» وبرامج الإنفاق الأخرى، في حين أن الزيادات الضريبية لا تفعل ذلك.

ويكتب أليسينا: «يؤكد الاقتصاد الكلي الحديث أن قرارات الناس بشأن ما يجب القيام به اليوم تتأثر بتوقعاتهم بشأن ما سيحدث في المستقبل». وأدرك جون ماينارد كينيز، أيضاً الأهمية البالغة للتوقعات: ويَنسب إليه جون هيكس إدخال «أساليب التوقعات» في الاقتصاد. ومع ذلك، فإن خريطة كينز المتوقعة كانت مختلفة تماماً عن خريطة أليسينا. إذ لا يشكل مستثمروه توقعاتهم عن طريق النظر في عجز الحكومة وحساب التأثير الذي سيحدثه على الفواتير الضريبية المستقبلية. وفي الواقع، بالكاد يلاحظون العجز.

وما يلاحظونه هو حجم أسواقهم. وبالنسبة لكينز، تعتمد قرارات رواد الأعمال بشأن خلق الوظائف على الدخل الذي يتوقعونه من زيادة فرص العمل. ويقلص التراجع الاقتصادي من عائدات المبيعات المتوقعة، مما يتسبب في تسريحهم للعمال.

ويعني خفض الإنفاق الحكومي أن بإمكانهم توقع مبيعات أقل، مما يتسبب في تسريح المزيد من العمال، ومن ثم، زيادة الركود الاقتصادي. وعلى العكس من ذلك، فإن الزيادة في الإنفاق الحكومي، أو التخفيضات الضريبية، تزيد من توقعات المبيعات، مما يعرقل التراجع.

فعلى سبيل المثال، إذا انخفض الطلب على السيارات، سيباع عدد أقل منها، وسيوظف عدد أقل من العمال في صناعتها. وإذا زادت الحكومة من إنفاقها على الأشغال العامة، فلن يؤدي ذلك إلى توظيف المزيد من العمال مباشرة فحسب، بل سيؤدي أيضاً إلى زيادة الطلب على السيارات، ومن ثم نمو ناتج الاقتصاد بنسبة أكثر من الإنفاق الحكومي الإضافي، مما يقلل العجز.

 

روبرت سكيدلسكي - عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ فخري في الاقتصاد السياسي بجامعة وارويك.

 

Email