مظاهر الخلل في الحساب الجاري

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

من المعروف أن الاقتصادات التي تسجل عجزاً في الحساب الجاري يغلب عليها المعاناة من نقص الادخار المحلي. وفي ظل نقص المدخرات مع وجود رغبة في الاستثمار والاستهلاك وتحقيق النمو، لا يكون أمامها خيار سوى اقتراض فائض الادخار لدى آخرين، مما يفضي إلى عجز في الحسابات الجارية وعجز تجاري في مقابل بقية دول العالم. ويحدث العكس للدول التي تتمتع بفائض في الحساب الجاري، حيث تصاب بتدني الاستهلاك، والإفراط في الادخار، والفوائض التجارية المزمنة.

هناك جدال ممتد حول الطرف المسؤول عن هذا الوضع ــ أهي دول العجز التي تعتمد بشكل مفتوح على ادخار الآخرين لتمويل نموها الاقتصادي، أم دول الفائض التي تعتمد في نموها على بيع إنتاجها في الأسواق الخارجية. ولطالما كانت لعبة تبادل اللوم هذه محوراً للنزاعات حول السياسة الاقتصادية الدولية والتوترات التجارية، وإن كانت اليوم أشد إثارة للنزاع والجدال.

وتعد الولايات المتحدة صاحبة أكبر خلل في ميزان الحساب الجاري في العالم. فقد اعتادت تسجيل عجز في كل الأعوام منذ 1982، باستثناء عام واحد وهو 1991. وخلال الفترة بين عامي 2000 و2017، بلغت قيمة العجز التراكمي في الحساب الجاري للولايات المتحدة 9.1 تريليونات دولار، وهو ما يفوق الفوائض التراكمية المقدرة بمبلغ 8.9 تريليونات دولار التي سجلتها خلال المدة نفسها أكبر ثلاثة اقتصادات ذات فائض ــ وهي ألمانيا والصين واليابان.

يرى كثير من المراقبين أن الولايات المتحدة تسدي بقية دول العالم معروفاً كبيراً بتسجيلها عجزاً مزمناً في الحساب الجاري ــ لا سيما فيما يتعلق بدعمها دول الفوائض الكبرى التي تغلب عليها المعاناة من نقص الطلب المحلي. بينما هناك آخرون، وأنا منهم، أكثر انتقاداً لولع أميركا الثابت بفرط الاستهلاك والدور الذي تلعبه اقتصادات الفائض في تنشيطه. ورغم وجاهة كلا الرأيين بلا شك، فإن لديّ قلق أكبر من الدور الأميركي في خلخلة التوازن من هذا الجانب.

ولو تأملنا ملياً في الأمر لوجدنا أن جذور العقلية الأميركية التي تقدم الاستهلاك وتسوف الادخار، والتي تمثل السبب الرئيس لعجز حسابها الجاري، متأصلة بعمق في اقتصادها السياسي. فلطالما انحاز القانون الضريبي الأميركي للادخار المنخفض والاستهلاك الممول بالدين، كما أن هناك جوانب أخرى تمثل على الأخص معضلة كبرى في هذا الشأن، منها إمكانية اقتطاع فوائد القروض العقارية، وعدم وجود أي ضريبة على القيمة المضافة أو ضريبة قومية على المبيعات، فضلاً عن ندرة الحوافز المشجعة على الادخار.

هناك أيضاً تأثيرات الثروة الناجمة عن غزارة فقاعات الأصول في السنوات الأخيرة. فبمساعدة وتشجيع من سياسة تسهيل الاقتراض إلى حد المبالغة التي تبناها مجلس الاحتياطي الفيدرالي منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، لم يتوقف التأثير المتبادل بين اقتصاد أميركا المعتمد على الأصول، ودورة الاستدانة المضمونة بضمانات متضخمة بالفقاعات، والتي لا تقل ضرراً. فما الداعي للادخار من الدخل طالما أن الأسواق التي تفيض بالفقاعات يمكن أن تقوم بالغرض؟ لذا فإن تفضيل الادخار المعتمد على الأصول على الادخار من الدخل يعد سبباً محورياً لعجز الحساب الجاري الأميركي.

وقد ابتهجت دول الفائض بالمشاركة سلبياً في هذا الأمر. فلم يكن من المهم بالنسبة لها أن يكون هذا الإسراف الأميركي في الاستهلاك مبنياً على أساس من الرمال المتحركة، حيث ساعد نمو الصادرات المفرط في اقتصادات الفوائض الكبرى على تعزيز الزيادات المفرطة في الاستهلاك من جانب أكبر مستهلك في العالم.

وقد انطبق هذا الأمر بشكل خاص على الصين، التي نمى قطاع صادراتها ستة أضعاف، ليرتفع من 6% من الدخل المحلي الإجمالي في 1980 إلى 36% في 2006، مدفوعاً بسياسية دينج شياو بينج القائمة على «الإصلاح والانفتاح».

ففي مقابل العجز الهائل في الحساب الجاري الأميركي، قفز الحساب الجاري للصين من توازن نسبي عام 1980 (أكثر من 0.1% من الناتج المحلي الإجمالي) إلى فائض ضخم بلغ 9.9% في فترة ما قبل الأزمة عام 2007. وانطبق الأمر ذاته على الاقتصادات الكبرى المتقدمة، لكن بدرجة أقل: حيث ارتفعت حصة صادرات ألمانيا من الناتج المحلي الإجمالي من 19% عام 1980 إلى 43% عام 2007، بينما زادت حصة صادرات اليابان من الناتج المحلي الإجمالي من 13% إلى 17.5% خلال الفترة نفسها.

وبالنظر من نواحٍ كثيرة، يمكن القول إنه قد حدث نوع من زواج المصلحة بين دول الفائض والعجز، ليزدهر في نهاية الأمر ويتحول إلى اعتماد متبادل كامل. لكن بعد ذلك، ومع وقوع الأزمة المالية العالمية في 2008 وما أحدثته من إرهاق وضغوط، توقفت الموسيقى وانتهى عهد الوئام. فمنذ ذلك الحين، اشتدت الخلافات بين دول العجز والفائض، لتصل الآن إلى حد المجازفة باحتمالية نشوب حرب تجارية بكل ما تعنيه.

لن يؤدي عجز الميزانية الفيدرالية الكبير والمتنامي خلال السنوات العديدة المقبلة إلا إلى تفاقم المشكلة. ويفتقد الإصرار على توجيه اللوم للصين ملاحظة نقطة واضحة ومهمة وهي الهبوط الحاد في فائض الحساب الجاري الصيني في السنوات الأخيرة، حيث انخفض من 9.9% من الناتج المحلي الإجمالي في 2007 إلى 1% في 2018 حسب التقديرات. ففي عام 2017، كان فائض الحساب الجاري للصين البالغ 165 مليار دولار أقل كثيراً من فائض ألمانيا (297 مليار دولار)، واليابان (195 مليار دولار).

يشير التاريخ إلى أن مظاهر الخلل في الحساب الجاري أمر جلل، وإن اقتصاداً عالمياً لا يزال يعاني من الخلل وعدم التوازن قد يضطر إلى تعلم الدرس المؤلم مرة أخرى في السنوات المقبلة.

* عضو هيئة تدريس في جامعة ييل، والرئيس الأسبق لبنك مورجان ستانلي في آسيا

Email