النظام العالمي والعصر الرقمي

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

حان أوان اتخاذ القرار في أوروبا. فإما أن تقف مكتوفة اليدين وهي تراقب ازدهار النزعة القومية والسلطوية من الولايات المتحدة في ظل نهج «أميركا أولاً» إلى الصين التي تنتقل من نظام الحزب الواحد إلى نظام الزعيم الأوحد، أو يمكنها أن تتولى قيادة عملية إعادة تنشيط القيم الديمقراطية والتعاون الدولي، في وقت حيث يتطلب التغير السريع الذي تدفعه التكنولوجيا إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية كبرى.

ينظر بعض المراقبين إلى صعود الشعبوية ــ التي تنتمي إلى اليمين غالباً ــ في الاتحاد الأوروبي كإشارة إلى أن الاتحاد الأوروبي بات أبعد ما يكون عن الاستعداد للاضطلاع بدور قيادي، بل إنه ربما بدأ يتفكك. لكن موقف الاتحاد الأوروبي أكثر تعقيداً مما يتصور المتشائمون ــ وهو ليس قاتماً إلى هذا الحد.

في الخريف الماضي، أظهر استطلاع يوروباروميتر 467 الخاص أن 75% من المستجيبين ينظرون إلى الاتحاد الأوروبي بشكل إيجابي. ورغم أن غالبية المستجيبين للاستطلاع يعتقدون أن حياة أطفالهم ستكون أكثر صعوبة من حياتهم، فإن الثلثين يعتقدون أن الاتحاد الأوروبي يقدم الأمل لشباب أوروبا ــ بزيادة قدرها ست نقاط مئوية عن عام 2016.

ويبدو أن الشباب يتفقون معهم. إذ كانت حصة المستجيبين الأصغر سناً (من سن 15 إلى 39 سنة) الذين ينظرون إلى الاتحاد الأوروبي إيجابياً مرتفعة بشكل خاص. وعلى الرغم من المخاوف بشأن «العجز الديمقراطي» في الاتحاد الأوروبي، يبدو أن أفراد هذه المجموعة يقدرون إمكانية المشاركة السياسية.

في مايو الماضي، تعزز الإيمان بمستقبل الاتحاد الأوروبي بفِعل انتخاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وإذا تمكن ماكرون من تأمين التعاون الألماني في تنفيذ برنامجه للإصلاح الأوروبي، فسوف تكتسب آفاق الاتحاد الأوروبي المزيد من القوة، ورغم أن الانتخابات الفيدرالية الألمانية في سبتمبر الماضي لم تسفر عن مثل هذه النتيجة المؤيدة للاتحاد الأوروبي بقوة ــ فالآن أصبح حزب البديل من أجل ألمانيا أكبر الأحزاب المعارضة، بعد نجاحه في الحصول على ما يقرب من 13% من الأصوات ــ فإن الغَلَبة كانت للأحزاب المعتدلة الرئيسية التي حصلت على أكثر من 60% من الأصوات. والحكومة الائتلافية الجديدة في ألمانيا مؤيدة لأوروبا مثل التي سبقتها على الأقل، وقد تكون أوروبا الأقوى الإرث اللائق بالمستشارة أنجيلا ميركل.

أما الانتخابات الإيطالية الأخيرة ــ التي فاز فيها حزب الرابطة المناهض للمهاجرين (وقاعدته الانتخابية في الشمال) وحركة النجوم الخمسة الشعبوية ذات الميول اليسارية «التي يتركز دعمها في الجنوب» بأكثر من 50% من الأصوات ــ فهي تشكل التطور الأكثر إثارة للقلق والانزعاج. ولكن نظراً للعداء بين الحزبين، فمن المرجح أن يضم الائتلاف الحاكم القادر على الاستمرار الحزب الديمقراطي المؤيد لأوروبا. وفي نهاية المطاف، مهما أقامت إيطاليا، التي أصبح اقتصادها مثقلاً بالديون، من حواجز أمام المزيد من تكامل الاتحاد الأوروبي، فمن غير المحتمل أن تكون هذه الحواجز مستعصية على العبور، إذا مارست فرنسا وألمانيا القيادة الحاسمة.

بطبيعة الحال، لن يكون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سهلاً على أوروبا. ولكن في مجمل الأمر، لم تعد أوروبا تبدو وكأنها قارة في أزمة. فحتى في اليونان، التي استعادت نمو الناتج المحلي الإجمالي، تدعم غالبية المستطلعين الآن الاتحاد الأوروبي.

في هذا السياق، ربما يواجه الاتحاد الأوروبي الآن فرصتين مترابطتين. فعلى المستوى الداخلي، يمكنه أن يتبنى الإصلاحات الكفيلة بتعزيز الكفاءة المؤسسية ودفع التكامل إلى الأمام. وعلى المستوى الخارجي، يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يناصر بقوة التعاون الدولي، وحقوق الإنسان، والمجتمع المفتوح.

ويتعين على أوروبا أن تحرز تقدماً في اغتنام الفرصة الأولى إذا كان لها أن تستفيد من الثانية، وهذا يعني تعزيز منطقة اليورو. وعلى هذه الجبهة، عَرَض ماكرون بالفعل مقترحات طموحة: ميزانية منفصلة لمنطقة اليورو، ووزير مالية لمنطقة اليورو مسؤول عن هذه الميزانية، وبرلمان لمنطقة اليورو «يتألف من أعضاء البرلمان الأوروبي والبرلمانات الوطنية» لمحاسبة وزير المالية.

قبل تشكيل الحكومة الائتلافية الجديدة في ألمانيا، جرى إنشاء مجموعة عمل فرنسية ألمانية للنظر في اقتراحات ماكرون. والآن بعد تنصيب إدارة ميركل الجديدة، سوف نتبين إلى أي مدى قد تذهب ألمانيا في دعم تماسك منطقة اليورو.

في الأمد القريب، يبدو من غير المرجح أن تدعم الحكومة الجديدة مقترحات ماكرون في هيئتها الحالية. ولكنها ربما تدعم استكمال الاتحاد المصرفي وبعض الآليات الداعمة لقدر أكبر من تنسيق السياسات الاقتصادية في منطقة اليورو.

وفي الأمد البعيد، لابد أن تكون بعض إصلاحات ماكرون في حكم الممكن، وخاصة إذا سُمِح لدول منطقة اليورو بالمضي قدماً دون شرط الموافقة بالإجماع من جانب كل الدول الأعضاء السبع والعشرين. والواقع أن مثل هذه التغييرات ــ إلى جانب المزيد من التعاون العسكري والاستخباراتي ــ من شأنها أن تضفي على المشروع الأوروبي دينامية جديدة، وأن تحفز المزيد من الحماس، ناهيك عن حس أعظم بالأمان، بين مواطني أوروبا.

وسوف يكون الاتحاد الأوروبي الأكثر تكاملاً وأماناً في وضع يسمح له بتأكيد ذاته على نحو أكثر فعالية على الساحة الدولية. وبفضل السوق الأوروبية الموحدة التي لا تزال تتباهى بناتج محلي إجمالي أكبر من نظيره في الصين أو الولايات المتحدة، يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يعمل كقطب ثالث في النظام العالمي الجديد. ومن الممكن أن يوفر نموذج الاتحاد الأوروبي القائم على الانفتاح الاقتصادي، والتماسك الاجتماعي، والمؤسسات القوية، البديل للاتجاهات الانعزالية والقومية التي تهدد التعاون العالمي.

لا شك أن التعاون الدولي، في مجالات مثل التجارة، وتغير المناخ، وتنظيم القطاع المالي، وسياسة المنافسة، والأمن السيبراني، يظل يشكل أهمية بالغة. وسوف تتعاظم أهمية التعاون الدولي مع تسبب التقدم في تطبيقات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية في إثارة قضايا أخلاقية شائكة لا يمكن معالجتها بفعالية إلا على المستوى الدولي.

إن النظام العالمي الليبرالي الذي خرج من تحت أنقاض الحرب العالمية الثانية للمساعدة في منع كوارث مماثلة في المستقبل يواجه الآن أعظم اختبار على الإطلاق. ويتعين علينا أن نؤكد أهمية التعاون الدولي، والانفتاح، والديمقراطية في هذا العصر الرقمي الجديد، في حين نعكف على تكييف سياساتنا وقواعدنا مع الحقائق الجديدة. وينبغي لأوروبا، بخبرتها الفريدة في خلق نموذج ديمقراطي للحكم فوق الوطني، أن تتقدم الطريق. فالعالم ــ وخاصة شبابه ــ يعتمد على هذا.

كارولين كونروي -  وزير الشؤون الاقتصادية في تركيا سابقاً، والمدير السابق لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وهو كبير زملاء مؤسسة بروكنغز

كمال درويش -  محللة أبحاث في مؤسسة بروكنغز

 

 

Email