ديون الإسكان المفرطة

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

في نهاية الربع الأول من هذا العام، وفقاً لتقديرات بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، تجاوزت الديون الاستهلاكية الأميركية للمرة الأولى ذروتها السابقة (بالدولار) التي بلغتها في الربع الثالث من عام 2008، في وقت اندلاع الأزمة المالية العالمية تماماً. وبرغم أن قروض السيارات والديون الطلابية كانت في ارتفاع سريع بشكل خاص، فإن ديون الإسكان تظل تمثل أكثر من ثلثي المجموع الذي بلغ 12.7 تريليون دولار.

كحصة من الدخل، لا تمثل الديون الأسرية ذلك التهديد الذي كانت تمثله قبل عشر سنوات للاقتصاد الوطني، ولكن الإحصاءات الجديدة تذكرنا بأن الأسر الأميركية لا تدخر بالقدر الكافي.

قد يعزو بعض المراقبين ميل الأميركيين إلى الإنفاق ــ في حين يميل الآسيويون على سبيل المثال إلى الادخار ــ إلى عوامل ثقافية، ولكنّ هناك عنصراً مهماً أيضاً يرتبط بالسياسات. إن سياسة الحكومة الأميركية مصممة كما لو أنها تشجع الأميركيين على تحمل أكبر قدر ممكن من ديون الإسكان.

يتردد أهل الاقتصاد في تقديم الشرح للناس عن ضرورة عدم الإفراط في الاقتراض، وتبدو النصيحة أشبه بمعلمة تلقن تلاميذها، كما تبدو كأنها تفتقر إلى التعاطف مع أولئك الذين لا يواكبون مستويات المعيشة التي قادتهم الاتجاهات التاريخية إلى توقعها، ولكنها لا تحابي أحداً في تشجيع فرط المديونية كمسألة سياسية، كما اكتشف الملايين الذين فقدوا منازلهم في أعقاب الأزمة في 2008.

يُقال إن امتلاك المرء مسكناً خاصاً يُعَد جزءاً أساسياً من الحلم الأميركي، ولا عيب في الحلم، ولكن لا عيب أيضاً في الاستئجار، فشراء مسكن يأتي غالباً نتيجةً، وليس سبباً، لازدهار الأسرة.

ويزعم دعاة «مجتمع الملكية» أن الأسر تولي رعاية أفضل لملكها العقاري مقارنة بالمستأجرين، وما يصاحب ذلك من عوامل خارجية إيجابية تعود على الحي، ولكن التشجيع العام لملكية المساكن يعمل أيضاً على إضعاف حركة اليد العاملة. ففي ظل الركود الأخير في الولايات المتحدة، عجز كثيرون من أولئك الذين فقدوا وظائفهم عن الانتقال إلى أجزاء أخرى من البلاد حيث الوظائف أكثر وفرة، لأنهم لم يتمكنوا من بيع مساكنهم. وهناك أدلة قوية تشير إلى أن أزمة الإسكان قيدت الباحثين عن عمل.

الواقع أن تشجيع ملكية المساكن ليست رخيصة، وقد قُدِّر إجمالي الدعم السنوي الفعّال لدين الإسكان في الولايات المتحدة بنحو 1% من الدخل الوطني، ويتمثل المكون الأكبر لهذا الدعم في قابلية الخصم الضريبي من الفائدة على الرهن العقاري السكني، الذي يكلف الكثير من العائدات، ومن الصعب تبريره على أساس توزيعي، فالفوائد لا تذهب إلا إلى أولئك من أصحاب الدخل المرتفع بالقدر الكافي لتفصيل بنود الاستقطاعات.

إذا تمكن الرئيس الأميركي دونالد ترامب من تمرير أي تشريع اقتصادي في العام المقبل، فمن المرجح أن يكون مرتبطاً بخفض الضرائب. ويقول الجمهوريون في الكونغرس إنهم يريدون إصلاحاً ضريبياً محايداً فيما يتصل بالإيرادات ومعززاً للكفاءة، وهو ما قد يمكننا تعريفه بأنه خفض لمعدلات الضريبة الهامشية، ولكن في الوقت نفسه إزالة الخصومات المشَوِّهة، وبالتالي الإبقاء على استقرار العائدات والعجز.

المثير للريبة بشكل خاص في حالة ترامب هو دعمه للهبات في قانون الضرائب الذي لا يستفيد منه سوى المطورين العقاريين من أمثاله، بيد أن المشكلة تتجاوز كثيراً ترامب أو الجمهوريين، ذلك أن السياسات التي تحابي ديون الرهن العقاري تتمتع بشعبية هائلة، فقد حظيت مدةً طويلة بدعم كل الساسة تقريباً من الحزبين السياسيين الرئيسين، مع اعتبار هدف تعظيم ملكية المساكن أمراً بديهياً.

وإلى جانب قابلية الخصم من فوائد الرهن العقاري، يُسمَح للمقترضين بتقديم دفعات مقدمة قد لا تتجاوز 5% (أو حتى أقل) من قيمة المسكن، بدلاً من النسبة الأقرب إلى المنطق بنحو 20%. وتفرض دول أخرى كثيرة، مثل كوريا وسنغافورة، قواعد تنظيمية -نسب القرض إلى القيمة على سبيل المثال- تحد من حجم القرض الذي تستطيع الأسرة الحصول عليه، حتى إنها تمكنت من إحكام حدود القرض أو تدابير الضريبة على نحو معاكس للدورة، وهي الطريقة الموصى بها للمساعدة على تثبيت استقرار دورة الإسكان.

لكن الولايات المتحدة ليست الدولة الوحيدة التي تتخذ تدابير تميل نحو تراكم ديون الإسكان المفرطة. ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال، دعمت مبادرة «المساعدة في الشراء» شراء المساكن بدفعات مقدمة لا تتجاوز 5%.

وتتلخص طريقة أخرى ساعدت بها الولايات المتحدة مدةً طويلة في دعم ديون الإسكان في شركات تأمين الرهن العقاري الضخمة شبه الحكومية مثل فاني ماي وفريدي ماك، وكل منهما كانت ذات ملكية خاصة، ولكنها تتمتع بضمانة حكومية ضمنية من دافعي الضرائب، وهي حالة كلاسيكية للخطر الأخلاقي. ومن المؤكد بالقدر الكافي أن مثل هذه الشركات وضِعَت تحت الوصاية الفيدرالية في 2008.

تضمن مشروع قانون الإصلاح المالي دود-فرانك، الذي تحول إلى قانون بتوقيع الرئيس باراك أوباما عليه في عام 2010، العديد من الفقرات التي استهدفت الحد من فرص اندلاع أزمة مالية كبرى أخرى، ولكن القانون كان ليدفع النظام المالية إلى مسافة أبعد في الاتجاه الصحيح لو لم ينفق كثيرون في الكونغرس السنوات السبع الأخيرة في تحطيمه أو الانتقاص منه.

وإليكم هنا أحد الأمثلة: كان قانون دود-فرانك من الحكمة بحيث يلزم البنوك وغيرها من الجهات المنشئة للرهن العقاري بالاحتفاظ بنسبة 5% على الأقل من قروض الإسكان التي تقدمها على دفاترها، بدلاً من إعادة حزم كل منها لإعادة البيع لآخرين، ويحتاج منشئو القروض إلى تحمل قدر من المخاطر، حتى يصبح لديهم الحافز للتحقق من الجدارة الائتمانية للمقترضين، ولكن تحت ضغوط شديدة من الكونغرس، أُبطِل هذا الشرط عام 2014.

من عجيب المفارقات هنا أن تشجيع ديون الإسكان في الولايات المتحدة لم ينجح حتى في رفع معدلات ملكية المساكن نسبة إلى دول أخرى، فحتى في ذروة طفرة الإسكان، تسببت إعانات الدعم في دفع أسعار المساكن إلى الارتفاع وليس زيادة أعدادها، ولم تكن ملكية المساكن أعلى من نظيراتها في العديد من الدول التي تطبق سياسات أكثر تعقلاً في التعامل مع الرهن العقاري (عدم إمكانية الخصم من الضرائب)، مثل كندا.

انزعج أغلب خبراء الاقتصاد مدةً طويلة من السياسات الأميركية التي دعمت ملكية المساكن، ولكن أغلبهم التزموا الصمت، والآن لم يعد كثيرون من الأميركيين راغبين في السماع من الخبراء. تُرى متى فُقِدَت الثقة إلى هذا الحد؟ ألم يكن ذلك عندما ابتلي الاقتصاد بأزمة الإسكان والأزمة المالية اللتين كان المفترض أن يتوقع خبراء الاقتصاد حدوثهما؟

 جيفري فرانكل  * أستاذ تكوين رأس المال والنمو في جامعة هارفارد

 

Email