الأوروبيون لديهم الوقت والأمريكيون المال.. فأيهما أفضل؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعدّ مقارنة الأوروبيين بالأمريكيين منطقة شائكة، لكن نيكولاي تانغن، الرئيس التنفيذي لصندوق الثروة السيادي النرويجي، خاضها الأسبوع الماضي. فقد صرح تانغن لـ «فاينانشال تايمز»، بوجود اختلاف في «المستوى العام للطموح. نحن الأوروبيون لسنا شديدي الطموح. لكن الأمريكيين يعملون بكدٍ أكبر».

هذه ليست المرة الأولى التي يُقال فيها أمر كهذا، فالأوروبيون والأمريكيون مختلفون في ما يتعلق بكيفية إنجاز الأمور. ويتوفر لدى الأوروبيين مزيد من الوقت، فيما يتمتع الأمريكيون بقدر أكبر من المال. وتعود مسألة تحديد أي الخيارين تفضل إلى الذوق الشخصي. وهناك ثلاثة مقاييس موضوعية إلى حد ما للمجتمع الصالح، وهي طول أمد حياة المواطنين، ومدى سعادتهم، وما إن كان بمقدورهم تحمل تكاليف احتياجاتهم. يجب أن يكون المجتمع مُستداماً أيضاً، وفقاً لمعدلات الانبعاثات الكربونية، والديون الجماعية، ومستويات الابتكار. وقياساً على ذلك، أي الجانبين أفضل؟

يعمل الأمريكيون، الذين عادة ما يتوفر لهم عدد أقل من الإجازات مدفوعة الأجر، بما يعادل أكثر من ساعة إضافية من العمل بعطلة نهاية كل أسبوع، مقارنة بالأوروبيين. وعمل الموظف الأمريكي 1,811 ساعة سنوية في 2022، مقابل 1,500 ساعة في شمالي أوروبا، وعمل الألمان 1,341 ساعة، وفق منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وفي ضوء كون الأمريكيين أكثر إنتاجية بكل ساعة عمل، مقارنة بغالبية الأوروبيين، فإن متوسط أجورهم أعلى، إذا ما قورن بمتوسط أجور كافة الدول الأوروبية، باستثناء لوكسمبورغ وإيرلندا والنرويج وسويسرا.

لقد اختار الأمريكيون الحصول على مزيد من المال مع تقدم الاقتصاد، فيما التزم الأوروبيون بالاتجاه التاريخي. ويتمثل هذا الاتجاه في الميل إلى منح الأولوية لوقت الفراغ، بدلاً من تكريس الحياة لتعظيم الثروة، وذلك بمجرد تخطي المرء لحد الكفاف وتغطية كافة احتياجاته.

وكأنما يطبق وجهة نظر تانغن على نفسه، أعلن نويل كوين، الرئيس التنفيذي البريطاني لمصرف «إتش إس بي سي»، فجأة منذ أيام، تنحيه عن منصبه، معرباً عن حاجته إلى «الراحة والاسترخاء»، وأيضاً «خلق توازن أفضل بين حياتي الشخصية والعملية»، بعد «خمسة أعوام ضارية» في الوظيفة.

وفي 1870، كان العامل العادي في الاقتصادات الصناعية يعمل لأكثر من 3,000 ساعة سنوياً، وفق حسابات المؤرخين الاقتصاديين مايكل هيوبرمان وكريس مينس. فيما يعمل الأوروبيون نصف عدد هذه الساعات اليوم.

واستمر تراجع متوسط ساعات العمل للموظف الأوروبي منذ الجائحة. وبحسب ورقة بحثية صدرت مؤخراً عن صندوق النقد الدولي، من تأليف ديفا أستينوفا وآخرين، فإن «الرجال، خاصة ممن لديهم أطفال صغار، والشباب، هم المحرك وراء هذا الانخفاض». وذكرت الورقة: «تضاهي هذه الانخفاضات للساعات الفعلية الساعات المطلوبة». ويرغب الآباء من الشباب، على ما يبدو، في عالم اليوم، قضاء مزيد من الوقت مع أبنائهم، أو يشعرون على الأقل بحاجتهم لذلك. ولطالما أظهرت استطلاعات الرأي رغبة جيل الألفية والمنتمين لجيل «زد»، في العمل لساعات أقل.

ويثير هذا استياء المكافحين في قمة المجتمع، أمثال تانغن، الذين يرغبون في اجتهاد الآخرين أيضاً. ويحب هؤلاء الأشخاص عملهم، ويحصلون على أجور جيدة، ويستخدمون من يساعدهم في شؤونهم المنزلية، وربما يُتوفون وهم يتمنون لو قضوا وقتاً أطول في العمل.

لكن المكافحين المدمنين على العمل استثناءات. كما أن الغالبية لا تحب ما تعمل. وتنشر «غالوب»، استطلاعات دولية واسعة النطاق، بشأن المشاركة في مكان العمل. ويساور الموظفين الأمريكيين مزيد من الحماس بشأن وظائفهم، مقارنة بالأوروبيين. وحتى في الشركات الأمريكية، وفق ما نشرته «غالوب» بالعام الماضي، فإن «نحو 30 % من الموظفين مشاركون حقاً. وهناك 20 % إضافية تعساء، ويشيعون تعاستهم في مكان العمل، إلى جانب 50 % يأتون فحسب إلى العمل، ويتمنون لو كان بإمكانهم ألا يعملوا على الإطلاق، خاصة في هذه الوظيفة».

وإجمالاً، غالبية الأمريكيين ربما تفضل ساعات العمل الأوروبية، لكن يقف أرباب العمل في طريقهم، وكذا تكلفة التأمين الصحي. وتمنح الولايات المتحدة مكافآت كبيرة لتصدّر الترتيب، وتفرض عقوبات كبيرة على محتلي المركز الأخير، ويعود إلى هذا جزئياً تصدير أوروبا للأكثر طموحاً للولايات المتحدة.

لكن حفنة ضئيلة من الأمريكيين هي التي تحصل على الجوائز الكبرى، وينتهي الأمر بالكثيرين إلى الشعور بالإنهاك وعدم السرور، وإن كان هذا يحدث وبحوزتهم منازل كبيرة وسيارات. وحلّت الولايات المتحدة في المرتبة 23 من حيث السعادة المُعلن عنها، بأحدث تقارير السعادة العالمية الذي يُنشر بالاشتراك بين «غالوب»، ومركز جامعة أوكسفورد لبحوث الرفاهة والأمم المتحدة، فيما استأثرت دول الشمال الأوروبي بأعلى المراكز. وحد رصد عالم السياسة السويدي بو روثستين: «من الواضح الآن، استناداً إلى عدة نماذج مجتمعية مُجربة منذ الطفرة الصناعية، يمكن للبحوث المجتمعية الإشارة إلى فائز من حيث الرفاهة البشرية، وهو نموذج بلاد الشمال الأوروبي».

ويبدو تانغن مستفيداً من ذلك. يتمتع تانغن بما يكفي من وقت الفراغ، لمراكمة أكبر مجموعة من الفن الحداثي الأوروبي، وهو نوع من الأنشطة لا يقدر المسؤول في صندوق تحوط يتخذ من نيويورك مقراً له، أن يفعله بمفرده. ليس ذلك فحسب، يقضي تانغن العطلات في منزله الصيفي. ومن هذا المكان، أو ربما من موقع آخر، نشر تانغن صورة شاعرية على حسابه في موقع «لينكد إن»، لبيتزا موضوعة على طاولة تعلو خليجاً بحرياً ضيقاً، وكتب: «تتمثل هوايتي هذا الصيف، في إعادة تدوير بقايا الطعام، ووضعها في بيتزا! واليوم، أتناول البيتزا المفضلة لي مع الروبيان والثوم والفلفل الحار. يا إلهي! هل من مُقترحات لبقية الأسبوع؟». لا يمكن أن تكون الحياة أكثر أوروبية من ذلك.

يتربع الأوروبيون كذلك على قمة أكثر المؤشرات أهمية للنجاح المجتمعي، وهو طول العمر. فالإسبان، على سبيل المثال، أكثر فقراً مقارنة بالأمريكيين، لكنهم يبقون على قيد الحياة لـ 83 عاماً في المتوسط، مقابل 77.5 عاماً للأمريكيين. حتى أكثر الأمريكيين ثراء، يبقون على قيد الحياة لمدة تقارب في طولها تلك التي يعيشها أكثر البريطانيين ثراء، رغم كونهم أكثر ثراء.

وثمّة اعتقاد راسخ لدى البعض بأن الحياة الجيدة الأوروبية، التي تتسم بساعات عمل أقصر، وتقاعد أطول، ليست مُستدامة. وتذهب وجهة النظر إلى إفلاس الدول الأوروبية، وسيتعين على الأوروبيين حينها العمل، شأنهم شأن الأمريكيين. لكن الوضع مختلف في حقيقة الأمر، إذ تعاني الولايات المتحدة نسبة أعلى من الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بأي من الدول الأوروبية، وتبلغ 123 %، ما يزيد بواقع الضِعف تقريباً، مقارنة بألمانيا غير كثيفة العمل، وتزيد ثلاثة أضعاف، مقارنة بالنرويج والسويد والدنمارك، بحسب صندوق النقد الدولي، لكن من المهم الإشارة إلى أن الولايات المتحدة غير مُستدامة، وفق أكثر المقاييس أهمية، وهو الانبعاثات الكربونية، إذ يستغل الأمريكيون ثرواتهم الفائضة لشراء مزيد من السلع، مقارنة بالأوروبيين، ويفضلون القيادة أكثر منهم، وكذلك استخدام مكيفات الهواء، وهلم جرا. ونتيجة لذلك، بلغ نصيب الفرد الأمريكي من الانبعاثات 13.3 طناً في 2023، مقابل 5.4 أطنان للفرد في الاتحاد الأوروبي، بحسب تقديرات وكالة الطاقة الدولية.

وتنتج الولايات المتحدة المزيد من الإبداع، فيما ليس ثمة «غوغل» أو «تسلا» أو «فيسبوك» أوروبيون. وهكذا، يحتاج الاقتصاد العالمي للولايات المتحدة، أو بضع أجزاء إبداعية منها، طالما لست مضطراً للعيش هناك.

كلمات دالة:
  • FT
Email