استهلال الحوارات.. حديث قصير أفضل من الانزواء في فراغ هائل

ت + ت - الحجم الطبيعي

في غداء عمل وجدت نفسي قد نفدت لدي الموضوعات التي تصلح للدردشة. ربما كان مرد ذلك اضطراب ناتج عن الرحلة الجوية الطويلة، أو مجرد إرهاق، لكن لم يكن لدي ما أسهم به في الحديث.

ربما تفكر في أن هذا كان أمراً محموداً، ومع ذلك، فقد بدا نفاد موضوعات الحوار وكأنه فشل مهني كبير، إذ تنطوي وظيفتي على حضور الكثير من حفلات العشاء، والجلوس إلى جانب غرباء.

ويعد الاتسام بفضول طبيعي من بين أكثر المتطلبات الأساسية للصحافي. ولا ينحصر الأمر على الصحافة فحسب، فاتسام المرء بأن يكون مسامراً يبدو لي وكأنه ميزة كبيرة لأي وظيفة أخرى. وفي حين قد يغتبط البعض بالانزواء في عالم الصمت لكن، وبحكم خبرتي، فإن عدم بذل أي جهد ينذر بليلة طويلة مفعمة بالوحدة ومليئة بالحرج.

وخلال سنين مراهقتي، اعتدت الخوف من الأحاديث القصيرة، لذلك، كنت أتدرب في مخيلتي على طرق لطيفة أستهل بها الحديث لدى اقترابي من مجموعة من الزملاء على سلم مكتبة المدرسة، لكن يغشاني الصمت متى حاولت التفوه ببنت شفة.

لكم كان كبيراً ذلك الخوف من الخضوع للحكم أو الرعب من التفوه بالكلمة الخاطئة. وفي حين كنت استطيع الثرثرة طيلة ساعات بحجرة الدرس، وسط همهمات وثرثرة اجتماعية الطابع، لكني فقدت ما لدي من ثقة.

أدركت، على مر العقود منذ ذلك الحين، أن أحداً لا يعبأ بما تقوله. وبالرغم من كل القلق والتوتر اللذين يساوران المرء لدى إقدامه على التفاعلات، فإن غالبية الناس يكونون عادة منشغلين كثيراً بمخاوفهم وأوجه قلقهم، إلى حد أنهم لن يفكروا بما يختلج بداخلك.

لن يميل الناس إلى الحكم عليك، ما لم تكن فظاً للغاية أو مستبقاً للإمكانات التي يفرضها عليك سنك. كما أننا نكون في غاية الامتنان غالبية الوقت لأي شخص مستعد للتحدث معنا. الجميع يشعرون بالحرج. لكن ثمة قلة قليلة من الأشخاص ثرثارون بطبيعتهم، بل وعدد أقل منهم موهوبون في ذلك.

إذن، كيف لك وأن تبدأ محادثة مع مجهول وحينما تكون مخاطر الإقدام على بدء المحادثة غير واضحة؟.

وبالنسبة للحكمة القديمة التي تذهب إلى وجوب عدم حديث المرء عن السياسة أو الدين، فبإمكانك تجاهلها إن أردت. وعلى الرغم من العرف، لكن غالبية الناس حريصون على الدخول في صلب الموضوع. بإمكانك الاستغناء عن الثرثرة حول الطقس سريعاً وخوض نقاش عن موضوع أكثر عمقاً بحلول بدء تناول الطبق الثاني.

ويتوقف اختيارك للموضوع على حماسك. وقد وجدت نفسي جالسة، قبل أعوام، بجانب مارتن أميس، الكاتب الأدبي المستفز.

لم يكن في ذلك الوقت وسيماً، لكنه ظل مفعماً بتلك الخيلاء لشخص اعتاد على سماع الناس لكل كلمة يقولها. كان أميس في طور دخول الشوط الأخير من آرائه المتعلقة بالنسوية. واستهل حديثه، قائلاً: «لطالما اعتقدت في القدرة على إدراك كل ما تريدين معرفته عن الشخص، بسؤالك إياه عن موقفه من المسألة الفلسطينية - الإسرائيلية».

أجبت عن سؤاله بأكثر ما أمكنني التفكير فيه طرافة، ظناً مني أن السؤال كان اختباراً لرد فعلي أكثر من كونه اهتماماً برأيي، فجعلت من نفسي أبدو كالحمقاء.

لم تساورني أي رغبة في خوض نقاش عن السياسة مع أميس، فلم أكن سأستطيع مجاراته، فكانت أكثر الحلول حفظاً لماء الوجه هي التصرف كالبلهاء. واسترسل الحوار على نحو حر إلى حد ما بعد ذلك، وإن كنت شعرت حينها، وفق ما أتذكره، بتعرق راحتي.

أفضل اتباع المذهب الفرويدي لدى سؤالي شخصاً عن حياته الأسرية المبكرة. فإن اكتشاف أن من يجلس أمامي هو أكبر تسعة أبناء، أو أنه انتقل للعيش في بورتوريكو في سن العاشرة، أو أن الأب تخلى عنه في سن صغيرة، كاشف عن طبيعة الشخص أكثر من مجرد سؤاله عن مشواره المهني، أو استطلاع وجهة نظره حيال التطورات الجارية في تايوان.

لكن وحتى عند استرجاعهم لفترات سابقة صادمة، يميل الناس إلى أن يكونوا سعداء للغاية عند استذكارهم للماضي، فكلٍ لديه قصة نجاة، أو ناصح في سن مبكرة شكل شخصيتهم التي هم عليها اليوم.

وهناك الأوقات العصيبة التي يبدو فيها كل استفسار محفوفاً بالترقب، مثل الرجل الذي يمر بفضيحة اجتماعية، أو شخص خسر أعماله، أو المرشح الرئاسي الذي فقد مقعده. هل تتفادى الحديث بكل أدب عن الأمر، أم تخوض نقاشاً مباشراً عن الأمر؟.

جلست في عشاء آخر خلال الأسبوع الماضي رفقة منتجة أفلام، وهي امرأة اعتادت التعامل مع ذوي غرور هائل، وإدارة عشرات الشخصيات في غرفة واحدة. وفي وقت مبكر من مشوارها العملي، باعتبارها امرأة تدخل عالماً يهيمن عليه الرجال، حصلت على نصيحة مهمة بأن يكون في جعبتها أمران مهمان.

قيل لها: «أولاً عليك أن تكوني صاحبة مزحة، وثانياً يجب أن يكون لك كتاب مفضل». وتتمثل النظرية وراء ذلك النصح في القدرة على كسر جدار الصمت بالفكاهة ما إن تصير الأمور شائكة. لكن مجرد فكرة إلقاء مزحة عفوية وحدها هي الأكثر إثارة للرعب بالنسبة لي. ومع ذلك، فقد كان إدراك حاجة مثل هذه الشخصية المؤثرة إلى عكازات للمحادثة مثيراً للشعور بالرضا لدي.

كلمات دالة:
  • FT
Email