ثمة مجموعة من القضاة في ويلمنغتون يهددون مستقبلنا، ويتسببون في انخفاض مستوى المعيشة للشعب الأمريكي. «هذه الكلمات لم تصدر عن إيلون ماسك، الذي أعرب منذ أيام عن غضبه الشديد تجاه محكمة ديلاوير، التي ألغت حزمة مدفوعات له تبلغ 56 مليار دولار من شركة تسلا». بل تعود هذه الانتقادات إلى عام 1989، وجاءت على لسان مارتي ليبتون، الأب الروحي لقانون الاندماج والاستحواذ الحديث، الذي زعم أن محكمة ديلاوير أصبحت قاسية للغاية تجاه موكليه من الشركات، خلال حروب الاستحواذ التي دارت في ذلك العقد.
وتساءل ليبتون حينها عما إذا كانت الشركات الكبرى ستهجر ولاية ديلاوير - حيث تتخذ معظم الشركات الأمريكية الكبرى المدرجة أسهمها مقراً لها - وتنتقل إلى ولايات أخرى، مثل نيوجيرسي وبنسلفانيا، بحثاً عن قضاة أكثر وداً. لكن لم يحدث ذلك النزوح مطلقاً، بل تحول ليبتون في نهاية المطاف إلى داعية بارز لما يسمى «طريقة ديلاوير». وسيطرت شركته القانونية، واشتيل ليبتون روزين أند كاتز، لاحقاً على تمثيل مجالس إدارة الشركات في نزاعات ديلاوير، بل وحتى وظفت العديد من قضاة ديلاوير المتقاعدين.
إن ماسك يحاول الآن إحياء الجدل حيال ولاية ديلاوير، والسلطة التي تمارسها محاكمها على الشركات الأمريكية. وقد تعهد بالسماح للمساهمين بالتصويت على ما إذا كان ينبغي لشركة تسلا نقل مقرها التأسيسي إلى تكساس، التي روجت لمحاكمها باعتبارها ملاذاً للشركات. وقد أدت المتابعة العالمية لماسك إلى لفت انتباه على نحو غير مسبوق إلى موضوع تأسيس الشركات، الذي كان يعتبر موضوعاً متخصصاً في السابق.
ومع ذلك، لا يشعر معظم المراقبين في ديلاوير بالقلق، فمن بين 470 شركة عامة مدرجة في قائمة فورتشن 500، يوجد مقر لنحو 328 شركة منها في هذه الولاية الصغيرة الواقعة في الجزء الأوسط من المنطقة المطلة على المحيط الأطلسي، والمعروفة بأنها ولاية الرئيس جو بايدن، ومقر مجموعة دوبونت للكيماويات، وذلك بفضل أن نظامها القانوني الخاص بالشركات مستقر ومفهوم جيداً.
وقد تأسست محكمة تشانسري في ديلاوير على أساس أنها تعمل على تطبيق المبادئ القانونية لتحقيق مثل العدالة، ولا يتم تداول الدعاوى الخاصة بها أمام هيئة محلفين، بل أمام القضاة أنفسهم، والمعروفين باسم المستشارين، أو نواب المستشارين. وتعود أصولها إلى عام 1792، وهي مصممة على غرار محكمة تشانسري العليا في بريطانيا العظمى.
قال جويل فليمينغ، أحد المحامين المخضرمين في ولاية ديلاوير، إن العقود الطويلة لسوابق التي توجه عمليات الدمج والاستحواذ ونزاعات الوكالة، بالإضافة إلى المجتمع القانوني عميق الجذور في ديلاوير، يكاد يستحيل أن تجد لها مثلاً في أي مكان آخر. وأظهرت دراسة أجريت عام 2001 أن الشركات التي تتأسس في ولاية ديلاوير تتمتع بقيمة أعلى لأسهمها.
قال ستيفن بينبريدج، أستاذ قانون الشركات في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجليس: «إذا افترضنا أن المؤسسين والمديرين لديهم حافز لتقليل تكلفة رأس المال، فإنهم سيفضلون التأسيس في ولاية تضمن حماية حقوق المستثمرين». وأضاف إنه يعتقد أن رغبة ديلاوير في لجم ماسك ستعزز سيادة الولاية بدلاً من تهديدها.
وكقاعدة عامة، تفضل ديلاوير عدم التدخل في عملية صنع القرارات داخل الشركات. ويعني مبدأها الشهير «قاعدة الحكم التجاري» أنه لا يمكن تحميل المديرين المستقلين مسؤولية القرارات التي يتخذونها نيابة عن المساهمين، طالما أنهم تصرفوا بقدر كافٍ من العناية وبحسن نية.
وكان ليو ستراين، الرئيس السابق لمحكمة ديلاوير العليا، يمزح بقوله: «بعد وظيفة «المصرفي الاستثماري»، أصبحت وظيفة «المدير المستقل لشركة عامة في ولاية ديلاوير» هي الوظيفة الأكثر أماناً في عمليات الاندماج والاستحواذ». وقد استفاد ماسك نفسه من سياسة عدم التدخل هذه عندما رفضت محاكم ديلاوير فرض عقوبات عليه بشأن استحواذ تسلا على شركة سولار سيتي عام 2016، بعد أن اتهمه مساهمو شركة صناعة السيارات باستخدام جزء من إمبراطوريته لإنقاذ جزء آخر.
لا ينطبق مبدأ عدم التدخل المذكور عندما ترى المحكمة أدلة كافية، على أن المديرين كانوا على علاقة وثيقة للغاية مع الشخص الذي يقف وراء صفقة ما.
وقد وجد إيلون ماسك نفسه في الجانب الخاسر من هذا المبدأ عندما خلصت القاضية كانثالين مكورميك إلى أن أعضاء مجلس إدارة تسلا ومديريها الذين توسطوا في اتفاقية الأجور كانوا مقربين منه. ويشكل تحليلها القانوني التفصيلي، بالإضافة إلى التدقيق العميق في الهيكل المالي لصفقة أجر ماسك غير المسبوقة، العمود الفقري لمحكمة تشانسيري المتخصصة في ديلاوير. ومع ذلك، لم تكن المحكمة في مأمن من الانتقادات، حتى قبل انفجار قضية ماسك. وتتصارع المحكمة التي كانت تكنوقراطية إلى حد كبير مع الحروب الثقافية الحديثة حول «رأسمالية أصحاب المصلحة» والمسائل البيئية والاجتماعية والحوكمة، والتي تجتذب بالفعل اللاعبين السياسيين أو الاجتماعيين الذين يريدون استخدام محكمة الأعمال لتوضيح وجهة نظر أوسع.
وهكذا، فقد فتحت ولاية ديلاوير الباب أمام محاسبة المساهمين لمجالس الإدارة لفشلها في منع الفضائح. وعلى سبيل المثال، قامت شركة بوينغ، بتسوية اتهامات بشأن طائرات 737 ماكس مقابل أكثر من 200 مليون دولار. وبشكل منفصل، رفضت محكمة تشانسري العام الماضي طلباً معتاداً بشأن «الدفاتر والسجلات» من أحد المساهمين للتحقيق في كيفية رد فعل شركة ديزني على تشريع «لا تقل مثلي» في فلوريدا.
ومن المفارقات أن تكساس، التي تحظى باهتمام ماسك، تواجه جدالاتها الخاصة، بما في ذلك رد فعل سلبي ضد المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة وقيود الإجهاض التي شوهت سمعتها كملاذ للشركات قليلة المشكلات.
بالنسبة لتكساس، جاء تأييد ماسك لها في الوقت المناسب. فهي تستعد لإطلاق محكمة تجارية خاصة بها في وقت لاحق من هذا العام، ويعتقد مؤيدوها أنها قادرة على منافسة محكمة تشانسري في ديلاوير. لكن ليس من الواضح ما إذا كان سيتبين أن نظامها القضائي أكثر ملاءمة لرغبات الرؤساء التنفيذيين.
وفي كل الأحوال، ستحتاج الشركات إلى موافقة المساهمين على الانتقال، بغض النظر عن ذلك. وقد نقلت تسلا مقرها الرئيسي بالفعل من كاليفورنيا إلى تكساس.
وقال بايرون إيغان، أحد كبار المحامين المتخصصين في قانون الشركات في تكساس، متطرقاً إلى قرار القاضية مكورميك بشأن أن تعويض ماسك مبالغ فيه: «ترى ديلاوير أنها أذكى منكم، وأن قضاتها في ويلمنغتون هم من سيقيمون الجوانب الاقتصادية لصفقتك». وأضاف مخاطباً إيلون ماسك: «سأقول لك ما قاله دايفي كروكيت (مستكشف الحدود الأسطوري): «البعض يولدون في تكساس، والبعض الآخر يأتي إليها بأسرع ما يمكن»».