قراءة في نجاح الإمارة بين زرقة المياه والسماء

كتاب الطيران المدني في دبي دراسة تفصيلية لتطور القطاع

ت + ت - الحجم الطبيعي

يروي الاستاذ غسان أمهز في كتابه " الطيران المدني في دبي النشأة والمستقبل " انه وبعد تولي الشيخ سعيد بن مكتوم آل مكتوم حكم الامارة ظهرت مهابط الطائرات لاول مرة في عهده بفضل الخبرة التجارية الواسعة التي كان يمتلكها لكونه مارس التجارة قبل ذلك وكان قد جمع ثروة كبيرة من صيد الاسماك وتجارة اللؤلؤ الامر الذي ساهم في تحقيق النمو الاقتصادي للامارة واستمراره.

وينقل الاستاذ غسان عن رجل الاعمال الاماراتي عبدالله الغرير انه وبسبب الازمة التي عاشتها دبي في العام 1929 مع انهيار تجارة اللؤلؤ بسبب اللؤلؤ الصناعي القادم من اليابان ومع سعي دبي للبحث عن مصادر بديلة للدخل بدأ التفكير في انشاء مهابط للطائرات في امارات الساحل وكان المهبط الاول قد انشأته بريطانيا على خور دبي مع بدايات ظهور النفط في تلك الصحراء وكان محطة لدخول الامارة في قائمة المحطات الجوية في العالم.

ويشير الكتاب الى انه ومع سعي بريطانيا للمحافظة على مصالحها التجارية والاقتصادية في هذه المنطقة بدأت في التفكير جديا في تأسيس تلك المهابط وبدأت بريطانيا بعد ذلك في المفاوضات مع حكام الامارات لتأسيس قواعد او مهابط لطائراتها التي تعبر من والى المنطقة خصوصا بعد تقارير فنية اشارت الى ان دبي والشارقة ورأس الخيمة تصلح جميعها لأن تكون محطات جوية وقد فضلت الخطوط الجوية البريطانية حينها استخدام خور دبي لهبوط الطائرات المائية بينما وجدت ان الشارقة ورأس الخيمة تصلحان لانشاء مطارات برية.

ونجحت بريطانيا في الحصول على اولى تسهيلاتها الجوية من خلال انشاء مطار ارضي في الشارقة وتشييد استراحة للركاب وبايجار شهري بلغ 800 روبية وتم اختيار مكان المطار على بعد كيلومترين جنوب شرق الشارقة وقد عرف باسم المحطة وكان دخول المسافرين الى المدينة يستلزم الاذن من الحاكم وتم تجهيز المطار في العام 1932 وحطت اول طائرة بريطانية في ذلك المطار في اكتوبر من العام نفسه وهي طائرة من طراز هاندلي بيج اتش بي 42 وكانت تحمل 24 راكبا.

اما في دبي فان الشيخ سعيد كان مترددا في البداية من اقامة مطار في دبي خشية من تزايد النفوذ البريطاني لكنه سرعان ما اعطى الموافقة المبدئية ووقعها بالفعل في العام 1933 وتم انشاء اول مهبط للطائرات المدنية على الماء حيث شهد سكان الامارة في العام 1936 هبوط اول طائرة مائية على مياه الخور وفي العام التالي كانت الخطوط الامبراطورية قد بدأت خدمتها الجوية في طريقها الى الهند وشملت محطات التوقف كلا من الاسكندرية والبصرة وبغداد والبحرين واضيفت اليها لاحقا دبي التي باتت محطة ترانزيت حيوية لنقل المسافرين عبر اجواء المنطقة.

وتبع ذلك اتفاقية وقعها الشيخ سعيد يسمح للخطوط الجوية البريطانية باستخدام جزء مساحته 1800 ياردة من خور دبي كمهبط مائي اضافة الى مرافق التزود بالوقود.

وفي 3 اكتوبر 1937 وصلت اول طائرة الى دبي تابعة للخطوط البريطانية من طراز كاليبسو وعلى متنها 28 مسافرا قادمة من ساوثهامبتون الى كراتشي ومنها الى دبي وحطت في مياه الخور مقابل ملعب الجولف الحالي مفتتحة بذلك رسميا اول رحلة تجارية منتظمة الى دبي. واعتبارا من ذلك الشهر كانت طائرتان مائيتان تمران عبر مهبط دبي اسبوعيا.وكان هبوط تلك الطائرات يعد من المظاهر غير المألوفة بالنسبة لسكان المدينة.

ورغم ظروف الحرب الثانية الا ان الاتفاقية تم تجديدها عدة مرات مع حكام الامارات ومن بينهم الشيخ سعيد وتم اضافة تأسيس مطار عسكري بريطاني . وهو امر استفادت منه دبي بعد نهاية الحرب الثانية حيث بدأت ملامح الانتعاش التجاري على الامارة مع تزايد اعداد الرحلات التي وصلت الى 466 رحلة قامت طائرات من طراز انساين وداكوتا وسندرلاند.

وبعد الحرب بدأت موجة من الطلب القوي على السفر الجوي مدفوعا بالطلب على التجارة والبحث عن اسواق جديدة وتأسيس الاتحادات العالمية للطيران بما فيها الاياتا.

رؤية الشيخ راشد العصرية

مع بدايات الاربعينات من القرن العشرين بدأ الشيخ سعيد يترك المجال لنجله الشيخ راشد الذي كان يشغل منصب نائب الحاكم كي يتبوأ دوره القيادي . وكان على الشيخ راشد مواجهة تحديات ما بعد الحرب. وكانت اجندة الشيخ راشد مزدحمة بفعل الخطط التي كان ينوي تنفيذها لخدمة الامارة ومستقبلها الاقتصادي وكان سموه حريصا على اطلاق مشاريع عدة خاصة ما هو متعلق بالبنية التحتية الذي ترتكز عليه الاسس التنموية الحديثة. وبدأ الشيخ راشد سلسلة من الاعمال التي تشمل خور دبي والجمارك والبنوك وغيرها وبناء ميناء راشد في العام 1967.

وخلال الفترة من 1958 1959 وهي السنة الاولى التي استلم فيها راشد حكم امارة دبي بدأ فعليا في التخطيط لانشاء اول مطار في دبي لخدمة سكانها ومصالحها الاقتصادية حيث ان نصف ميزانية الامارة كانت مخصصة لمشروعين ضخمين هما مطار دبي والخور وتم تخصيص اكثر من 200 الف روبية كميزانية للمطار وحده.

وبدأت دبي تتصدر امارات الساحل في الخمسينات بعد ان استفادت من انفتاحها التجاري على العالم بفضل امتلاكها لميناء حيوي ونشاطها في مجال اعادة التصدير ونمو تجارة الذهب في الامارة الذي عجل بانشاء المطار بعد ان نجحت دبي في مشروع تعميق الخور وجنت منه فوائد اقتصادية عديدة.

بين الزرقتين

ادرك الشيخ راشد ان زرقة المياه في خور دبي التي استجابت لطموحاته في زيادة ايرادات الامارة يتعين عليها التناغم مع زرقة اخرى في السماء والتي لن تنجح دون اكتمال انشاء المطار الجديد وبدأ الشيخ راشد مفاوضاته مع البريطانيين لهذا المشروع الكبير وهي فكرة كانت تراود الشيخ راشد منذ الخمسينات قبل ان يتولى الحكم في الامارة.

ورغم الرفض البريطاني في البداية الا ان الشيخ راشد كان مصمما على انشاء المطار وحاول البريطانيون اقناع الشيخ راشد بفكرة موقع جديد للمطار في جبل علي لكن الشيخ راشد رفض الفكرة لبعده عن المدينة والخور بالذات وعدم توفر مقومات نجاحه. وكان على الشيخ ان يتحرك بقوة والتي توجها بزيارة الى بريطانيا في العام 1959 وتمكن من اقناع السلطات البريطانية بانشاء المطار في دبي.

وتم البدء باعداد الخرائط للمطار الجديد مع تحديد موقعه الذي يبعد ميلين من دبي بجانب ديرة وسيمتد المدرج ما بين 1500 و 2000 ياردة وبعرض 35 ياردة.

10 سبتمبر بدء العمل

وبدأ العمل في مطار دبي في 10 سبتمبر من العام 1959 بعد موافقة الشيخ راشد على التكلفة والتفاصيل الفنية وكان سموه يشرف بنفسه يوميا على اعمال البناء وسارت اعمال البناء بوتيرة متسارعة وسط حالة من الترقب من قبل التجار. وكان سبق تلك الاعمال قيام سموه بتأسيس وكالة دناتا للسفريات في العام 1959 بهدف خدمة حجوزات السفر والخدمات الاخرى للمسافرين وتألفت دناتا من قسمين في البداية احدهما مخصص لخدمات المطار والآخر باعمال السفريات وتم تنظيم دورات تدريبية من قبل الخطوط البريطانية للموظفين وكانت دناتا ثاني وكالة سفريات بعد شركة كانو التي تأسست في العام 1946 .

وعلى هامش العمل تم توقيع اتفاقية مع شركة بي بي لتزويد الطائرات بالوقود وزيوت التشحيم بعقد حصري مدته 15 عاما.

وانتقل الشيخ راشد لانجاز كافة الترتيبات القانونية والفنية الخاصة بادارة وتشغيل المطار قبل افتتاحه ووقع جملة من الاتفاقيات في هذا الاتجاه تشمل ادارة المطار وخدمات الحركة الجوية والاتصالات والانقاذ.

ومع بزوغ فجر 15 مايو 1960 وبعد حوالي 9 شهور من العمل اكتمل بناء المدرج وبدأت الاستعدادات لاجراء التجارب الاولية بعمليات اقلاع وهبوط تجريبي للتأكد من سلامة الارضية وصلاحيتها.

30 سبتمبر 1960 اول مطار

في 30 سبتمبر من العام 1960 بدأت دبي مسيرتها الظافرة نحو عالم الطيران مع افتتاح مطار دبي الدولي الذي كان حدثا مهيبا ينتظره الجميع. ودشنت طائرة تابعة لشركة الخطوط الجوية اللبنانية " ميدل ايست" من طراز كوميت 4 .

وبعد احتفال كبير ضم اكثر من 3000 شخص انطلق العمل في المطار الذي كان يعمل بواقع 6 ساعات يوميا بين الساعة 7 صباحا والواحدة من بعد الظهر لاستقبال الطائرات ويتم اغلاقه بعد ذلك الا في حالات الضرورة القصوى. وشكل افتتاح مثل هذا المشروع المفصلي وانتهاج دبي لسياسة الاجواء المفتوحة مسار دبي للتحليق في عالم الطيران .

ويقول محمد اهلي الذي كان يعمل في المطار آنذاك وهو اليوم مدير عام هيئة دبي للطيران المدني ان عملية هبوط الطائرة على مدرج المطار كانت قصة مختلفة تستحق ان تروى ففي البداية لم يكن هناك مولدات كهربائية او انظمة متطورة للاضاءة وكان موظفو دناتا يستخدمون نوعا من المصابيح القديمة وهي عبارة عن شمعة زيتية يتم اشعال فتيلها ومن ثم وضعها في خط مستقيم على جانبي المدرج الرملي لمساعدة الطيار على الرؤية والهبوط بسلام.

المطار وتنشيط التجارة

لم يمض وقت طويل على تشغيل المطار حتى بدأت الارقام تتكلم لتوضح اهمية المطار بالنسبة للحركة التجارية ووصل عدد المسافرين الذين استخدموا مطار دبي في نهاية العام 1961 أي بعد 15 شهرا من افتتاحه الى 33 الفا و 200 مسافر وعدد الرحلات القادمة والمغادرة والعسكرية والبريد الى 1004 رحلات أي بمعدل 3 رحلات يوميا.

ويؤكد جمعة الماجد اهمية الدور الذي لعبه المطار بالقول «ساهم المطار ومنذ افتتاحه في استقطاب شركات الطيران وتسهيل سفر الناس وقدوم التجار والعاملين من مختلف انحاء العالم الى دبي وتنشيط الاسواق التجارية خاصة السوق القديم».

ويمكن القول ان دبي دخلت عقد الستينات من القرن الماضي وهي افضل حالا مما كانت عليه في بداية الخمسينات وتوفرت لديها خدمات البنية الاساسية من مياه وكهرباء وخدمات الشرطة والبلدية وبدأ توافد الشركات الاجنبية عليها وافتتاح فرع المصارف والخدمات بفعل التسهيلات التي وفرها المطار الجديد. ووفقا للتقرير الاقتصادي الوارد في وثائق الارشيف البريطاني فان دبي حققت المزيد من التقدم ووسعت ارصفة الميناء ووفرت اماكن للتفريغ.

وعقب افتتاح المطار بايام قليلة بدأت شركة جلف افييشن لميتد التي كانت تستخدم مطار الشارقة بتسيير رحلتين اسبوعيا الى دبي مطلع اكتوبر 1960 .ثم تبعتها الخطوط الكويتية بمعدل رحلة واحدة اسبوعيا ثم بدأت شركات الطيران العربية والاجنبية في القدوم الى المطار.

ولعب المطار دورا حاسما في استقطاب العمالة للانشاءات مع شغف دبي لتطوير بنيتها التحتية وتنفيذ المزيد من المشاريع النوعية الجديدة.

طموحات راشد

لكن النمو المتسارع لدبي مع تسارع خطط الشيخ راشد بتحويل دبي الى مركز تجاري اقليمي واجهت صعوبات مع محدودية حركة الرحلات الجوية من والى الامارة التي بدأت تتطلع الى شركة طيران خاصة تلبي طموحاتها العالية. وكانت دبي ومنذ الستينات تمتلك هذه الخطط على الورق لانشاء خطوط " طيران دبي " يملكها القطاع الخاص بصلاحيات واسعة لكن هذه المخططات بقيت ورقا باعتبار ان دبي مخدومة حاليا من قبل الشركات الاخرى. ومع ظهور النفط ومطلع عام 1962 واصلت دبي مسيرة النمو وتعزيز مكانتها التجارية. وادى الازدهار التجاري بعد عام 1964 في جذب الخبرات العالمية وانطلاق مشاريع البنية التحتية من جسور وطرق والاف العمال الذين كانوا يعملون فيها وهذا ترتب عليه زيادة المسافرين عبر مطار دبي حيث ارتفعت اعدادهم الى 46 الفا و 400 مسافر وعدد الرحلات الى 1343 رحلة الامر الذي استدعى تغيير المدرج الخاص بالمطار بمدرج جديد من الاسفلت مكن المطار من استقبال الطائرات الكبيرة في ذلك الوقت. من امثال بوينغ 707 وسي 10 وغيرها.

كما اتجه المطار الى استقبال الرحلات الليلية بعد عام 1966 والقادمة من عواصم عربية واجنبية عدة حيث تم تزويد المطار باضاءة حديثة وخلطة اسفلتية وتعبيد الطرق المؤدية اليه وبدأ الناس بالفعل في التعرف على السفر بالطائرة في هذه المنطقة واتضح ان مطار دبي وخلال ست سنوات فقط بات وجهة مفضلة لشركات الطيران العربية والدولية نتيجة التطوير المستمر في مرافقه وخدماته. واصدر الشيخ راشد تعليماته لاتاحة الفرصة امام طلاب المدارس للالتحاق بالدوائر الحكومية ومن ضمنها المطار الذي يشكل نوعية جديدة من الاعمال في ذلك الوقت.

مشاريع توسعة في 1968

شكل العام 1968 نقطة تحول جديدة في المطار حيث وافق الشيخ راشد على مشاريع التوسعة في المطار التي شملت بناء صالة صغيرة للمسافرين المغادرين ملحقة بمبنى المطار الذي اصبح مخصصا للقادمين فقط لغرض كبار الشخصيات ورجال الاعمال كما شملت التوسعة ايضا بناء مرافق اخرى لاستقبال طائرات الشحن التي بدأ عددها يزيد وتعبيد المساحات بالاسفلت ومشروع ثالث لانشاء قسم جديد لوسائل الاتصال والمعلومات الخاصة بالرحلات اما الرابعة فهو انشاء مبنى صغير لتلبية احتياجات المطار بالنسبة للشحن.

ادت التوسعة الجديدة في مطار دبي الى تعزيز اهميته وزيادة الحركة عبره حيث ارتفعت اعداد المسافرين الى 209 الاف في العام 1968 وحركة الرحلات الى 6896 حركة. كما بدأت تنشط عمليات الشحن مع دخول النفط في المعادلة وشحن الفضة والذهب وغيرها. استعدادا لمرحلة بداية السبعينات التي شهدت نقلة نوعية جديدة تمثلت في بناء مطار جديد ومرحلة نمو جديدة نقلت المطار الى المصاف العالمي وحلقت بالامارة الى مستويات العالمية خلال سنوات قليلة.

Email