أسوارها المنيعة حصنت تاريخها ضد الاندثار

رباط الفتح.. مدينة الأبواب الخمسة وصومعة حسان

ت + ت - الحجم الطبيعي

يرجع تاريخ مدينة الرباط إلى فترات تاريخية مختلفة، إلا أن التأسيس الأولي للمدينة يعود إلى عهد المرابطين الذين أنشأوا رباطاً محصناً، ذلك أن هاجس الأمن كان أقوى العوامل التي كانت وراء هذا الاختيار ليكون نقطة لتجمع المجاهدين، ورد الهجمات البورغواطية.

خلال العهد الموحدي عرفت المدينة إشعاعاً تاريخياً وحضارياً، حيث تم تحويل الرباط (الحصن) على عهد عبد المومن الموحدي إلى قصبة محصنة لحماية جيوشه التي كانت تنطلق في حملات جهادية صوب الأندلس. وفي عهد حفيده يعقوب المنصور، أراد أن يجعل من رباط الفتح عاصمة لدولته، وهكذا أمر بتحصينها بأسوار متينة.

وشيد بها عدة بنايات من أشهرها مسجد حسان بصومعته الشامخة. وفي القرن الرابع عشر بدأت الرباط تعرف اضمحلالاً بسبب المحاولات المتتالية للمرنيين للاستيلاء عليها. وإنشاؤهم لمقبرة ملكية بموقع شالة لخير دليل على ذلك. وفي عهد السعديين 1609 سمح للمسلمين القادمين من الأندلس بالإقامة بالمدينة، فقاموا بتحصينها بأسوار منيعة والتي ما زالت تعرف بالسور الأندلسي.

وفي هذا العهد تم توحيد العدوتين (مدينة الرباط وسلا) تحت حكم دويلة أبي رقراق، التي أنشأها الموريسكيون. ومنذ ذلك الحين اشتهر مجاهدو القصبة بنشاطهم البحري، وعرفوا عند الأوربيين باسم «قراصنة سلا» وقد استمروا في جهادهم ضد البواخر الأوربية إلى غاية سنة 1829.

بقيت شالة مهجورة منذ القرن الخامس حتى القرن العاشر الميلادي حيث تحول الموقع إلى رباط يتجمع فيه المجاهدون لمواجهة قبيلة برغواطة. لكن هذه المرحلة التاريخية تبقى غامضة إلى أن اتخذ السلطان المريني أبو يوسف يعقوب سنة 1284م من الموقع مقبرة لدفن ملوك وأعيان بني مرين حيث شيد النواة الأولى لمجمع ضم مسجداً وداراً للوضوء وقبة دفنت بها زوجته أم العز.

حظيت شالة على عهد السلطان أبي الحسن باهتمام بالغ. أما ابنه السلطان أبو عنان فقد أتم المشروع، فبنى المدرسة شمال المسجد والحمام والنزالة وزين أضرحة أجداده بقبب مزخرفة تعتبر نموذجاً حياً للفن المعماري المتميز لدولة بني مرين.

تراجعت شالة مباشرة بعد قرار المرينيين بإعادة فتح مقبرة القلة بفاس، فأهملت بناياتها، بل وتعرضت في بداية القرن الخامس عشر الميلادي للنهب والتدمير لتحتفظ بقدسيتها العريقة وتعيش بفضل ذكريات تاريخها القديم على هامش مدينة رباط الفتح، وتصبح تدريجياً مقبرة ومحجاً لساكنة المنطقة، بل معلمة تاريخية متميزة تجتذب الأنظار.

في القرن الرابع عشر الميلادي (1339) أحيط الموقع بسور خماسي الأضلاع مدعم بعشرين برجاً مربعاً وثلاث بوابات أكبرها وأجملها زخرفة وعمارة الباب الرئيسي للموقع المقابل للسور الموحدي لرباط الفتح. أما داخل الموقع فقد تم تشييد أربع مجموعات معمارية مستقلة ومتكاملة تجسد كلها عظمة ومكانة مقبرة شالة على العهد المريني.

ففي الزاوية الغربية للموقع ترتفع بقايا النزالة التي كانت تأوي الحجاج والزوار. وفي الجزء السفلي تنتصب بقايا المقبرة المرينية المعروفة بالخلوة، والتي تضم مسجداً ومجموعة من القبب أهمها قبة السلطان أبي الحسن وزوجته شمس الضحى، والمدرسة التي تبقى منارتها المكسوة بزخرفة هندسية متشابكة ومتكاملة وزليجها المتقن الصنع نموذجاً أصيلاً للعمارة المغربية في القرن الرابع عشر.

في الجهة الجنوبية الشرقية للموقع يوجد الحمام المتميزبقببه النصف دائرية، التي تحتضن أربع قاعات متوازية: الأولى لخلع الملابس والثانية باردة والثالثة دافئة و الرابعة اكثر سخونة.أما حوض النون، فيقع في الجهة الجنوبية الغربية للخلوة وقد كان في الأصل قاعة للوضوء لمسجد أبي يوسف، وقد نسجت حوله الذاكرة الشعبية خرافات وأساطير جعلت منه مزاراً لفئة عريضة من ساكنة الرباط ونواحيها.

* السور الموحدي

شيد هذا السور من طرف السلطان يعقوب المنصور الموحدي، حيث يبلغ طوله 2263م، وهو يمتد من الغرب حتى جنوب مدينة الرباط، ويبلغ عرضه 5,2م وعلوه 10 أمتار وهذا السور مدعم ب 74 برجا، كما تتخلله 5 أبواب ضخمة (باب لعلو، باب الحد، باب الرواح، وباب زعير).

* السور الأندلسي

شيد على عهد السعديين من طرف المورسكيين، يقع على بعد 21م تقريباً جنوب باب الحد، ليمتد شرقاً إلى برج سيدي مخلوف، وهو يمتد على طول 2400م. وقد تم هدم جزء من هذا السور 110م بما فيه باب التبن، والذي يعتبر الباب الثالث لهذا السور مع باب لبويبة وباب شالة. وهو على غرار السور الموحدي مدعم بعدة أبراج مستطيلة الشكل تقريبا، ويبلغ عددها 26 برجا، وتبلغ المسافة بين كل برج 35 مترا.

* قصبة الأوداية

كانت الأوداية في الأصل قلعة محصنة، تم تشييدها من طرف المرابطين لمحاربة قبائل برغواطية، ازدادت أهميتها في عهد الموحدين، الذين جعلوا منها رباطاً على مصب وادي أبي رقراق، وأطلقوا عليها اسم المهدية. بعد الموحدين أصبحت مهملة إلى أن استوطنها الموريسكيون الذين جاءوا من الأندلس، فأعادوا إليها الحياة بتدعيمها بأسوار محصنة.

وفي عهد العلويين عرفت قصبة الأوداية عدة تغييرات وإصلاحات ما بين سنة (1757-1789)، وكذلك ما بين سنة (1790 و 1792). وقد عرف هذا الموقع تاريخاً متنوعاً ومتميزاً، يتجلى خصوصاً في المباني التي تتكون منها قصبة الأوداية. فسورها الموحدي وبابها الأثري (الباب الكبير) يعتبران من رموز الفن المعماري الموحدي. بالإضافة إلى مسجدها المعروف بالجامع العتيق، أما المنشآت العلوية فتتجلى في الأسوار الرشيدية، والقصر الأميري الذي يقع غربًا وكذلك منشآتها العسكرية برج صقالة.

* صومعة حسان

تنهض صومعة حسان شامخة ليبلغ ارتفاعها أربعة وأربعين متراً، وكان من المخطط أن يصل إلى ثمانين متراً. إنها على شاكلة الحلم الذي حلم به يعقوب المنصور حلم عظيم ولكنه لم يكتمل. تتخلَّل الساحة الرائعة والفسيحة جداً مئتا عمود كان يتوقع أن تحدد الإطار العام لأكبر مسجد في العالم الإسلامي لو أنه أتيح له أن يبنى. كان ينبغي أن ينهض هناك، وفي جوار صومعة حسان، المسجد العظيم الذي يليق بإمبراطورية الموحدين وأمجادها.

وهي الإمبراطورية التي كانت تمتد أراضيها في القرن الثاني عشر من تونس إلى إسبانيا الموريسكية.بالقرب من صومعة حسان، ولكن بعد مرور قرون طويلة على بنائها، تم تشييد ضريح الملك محمد الخامس. وكانوا قد شرعوا في بنائه عام 1962. وفي الداخل توجد قاعة مبنية بمعمار رائع على الطريقة الإسلامية التقليدية المغربية وفي مركز القاعة يوجد قبر محمد الخامس، والقبر مبني من الغرانيت المصقول كالمرآة والمغطى بالعقيق اليماني الأبيض.

وإلى جواره يرقد الملك الحسن الثاني والأمير عبد الله. للرباط أبواب خمسة كبيرة يمكن للزائر أن يدخل إلى المدينة من خلالها. وهي مزينة بنحوت لأكاليل الزهر وبتشبيكات مظفَّرة وبزخرفات عربية مزهرة تتخذ شكل المحارات الكبيرة. ومن بين هذه الأبواب، باب الرواح (باب الرياح)، وهو الأجمل. ويستقبل المعارض الفنية والتشكيلية باستمرار.

* المتحف الأثري

والآن لننطلق في اتجاه المتحف الأثري (الأركيولوجي)! إن المغرب يروي قصة أصوله من خلال هذا المتحف الغني جداً. إنه يروي قصة جميع الحضارات التي تعاقبت عليه بدءاً من حضارة ما قبل التاريخ، مروراً بالحضارة ما قبل الرومانية، فالرومانية، وانتهاء بالآثار الإسلامية العريقة. كل ذلك في هذا المتحف الأركيولوجي الكبير.

كم يشعر الزائر بالانفعال والتأثر أمام هذه القبضات الحديدية والإبر الصوانية التي نحتها الإنسان النيانديرتالي بكل صبر وعناية!.. وهناك، كم توجد من الأدوات والآلات! وعندما نتأمل فيها نتخيل بكل سهولة أنها في يد الفخّارين، والجرّاحين، ومربّي الحيوانات، والخبّازين...

وبعدها بقليل تلاحظون أن كل خطوة تخطونها تقودكم إلى تحفة فنية. انظروا إلى هذه الرائعة الأثرية التي تدعى «البغلة السكرانة» والتي تعود إلى عصر أوغسطوس، أول أباطرة الرومان. ولكن بدءاً من هذه اللحظة فصاعداً فإن دليلكم هو العطر والروائح الزكية. اتبعوها حتى تصلوا إلى حوالي زنقة السويقة.

فهناك تجدون التوابل والبهارات، وقضبان اللحم المشوي، والكفتة، والحلويات المعسلة... وشهية طيبة إذن لمن لم يكونوا قد أكلوا بعد! وفي شارع القناصلة تجدون الكؤوس المزركشة، والأقمشة المطرزة، والدمالج الجميلة، ثم بشكل أخص السجادات، تلك الزرابي ذات المخمل الأزغب والتي تشتهر بها الرباط. وهي زرابي ذات نسيج ناعم ورسم دائري مركزي يبرز على خلفية حمراء.

اعداد: مصطفى عبد العظيم

Email