اقتصاد كولومبيا بدأ يستفيق من نشوة الإدمان على أموال الكوكايين

ت + ت - الحجم الطبيعي

ظل اقتصاد كولومبيا في حالة نشوة من أموال الكوكايين طيلة عشر سنوات، فازدهر العمار وزادت مبيعات السيارات وارتفعت قيمة الأراضي والممتلكات العقارية كثيراوغرقت البلاد في سيل من السلع الفاخرة المستوردة وفي الضاحية الشمالية المزدهرة للعاصمة بوجوتا شهدت المحلات التجارية ذات الأرضية الرخامية اقبالا كبيرا على شراء ساعات يد رولكس بخمسمائة دولار وزوج الأحذية الايطالية الصنع بمائتي دولار، وسيارات اللاند روفر بتسعين ألف دولار. ولقد استفاد معظم الكولومبيين من هذا الازدهار، بصرف النظر عما إذا كانوا ضالعين أو غير ضالعين في تجارة المخدرات، مع تدفق مليارات الدولارات على الاقتصاد المحلي عن طريق عصابات الكوكايين. وتبجح أفراد الطبقة الحاكمة - بآخر أزياء الموضة الأوروبية - بثرواتهم، باقامة مآدب الغداء العملية، وقضاء العطلات في المرابع والمنتجعات الأوروبية، وأفاد أفراد الطبقة الدنيا من تزايد فرص العمل. ولكن يظهر ان تجار المخدرات يقللون من تحويلاتهم المالية إلى البلد هذه الأيام. وهذا، مع مضاعفات الأزمات الاقتصادية في آسيا وروسيا مما أوقع الكولومبيين في أسوأ ركود اقتصادي في البلاد منذ عشرات السنين، وهم يفهمون كيف شوهت تجارة المخدرات اقتصاد البلد وزعزعت أسسه الصناعية والزراعية. يقول فيرجيليو كوريا، وهو صاحب مزرعة أبقار: لقد انتهى هذا الاقتصاد الخرافي. كنا وكأننا بلد غني في حين كنا في الحقيقة بلدا فقيرا. وقد نشأ معظم الضرر من التصاعد الكبير في الاستيراد غير المنظم وغير القانوني للسلع والمواد الخام. وهذه تجارة استخدمتها عصابات المخدرات كوسيلة رئيسية لتبييض أموال الكوكايين. وتنامت تجارة السلع المهربة فبلغت 25% من اجمالي الاستيراد، أي ما قيمته حوالي خمسة مليارات دولار في السنة. ويقول فاني رتزمان رئيس دائرة الضرائب والجمارك الكولومبية الذي بدأ يشن حملة متأخرة على تهريب السلع، إن تدفق البضائع قد قضى على عشرات الألوف من الوظائف، بمنافسة الصناعات المحلية، مثل صناعة الأحذية والمنسوجات والتبغ والمشروبات. وقد أغلقت مصانع الأدوات الاستهلاكية والخلاطات وأجهزة التلفزيون. في العام 1984 كانت صناعة التبغ المحلية تزود 85% من السوق المحلية. ومع حلول العام 1995 تراجعت النسبة إلى 30%، منها أقل من 10% من سوق السجائر المستوردة بصورة شرعية. وتقول مراجع السوق ان 80% من سوق المشروبات اليوم هي للتهريب. وقد أفلست ثماني شركات للاستيراد الشرعي في السنتين الماضيتين وبقيت أربع شركات فقط. ولا يقتصر التهريب على السلع الاستهلاكية، بل يمتد إلى المواد الخام والحليب المجفف الأوروبي الذي أنزل أسعار الانتاج المحلي، والموز والذرة والأرز من الاكوادور، والبنزين من فنزويلا، بل وحتى الدجاج المقطع. في أوج سطوة عصابات ميدلين وكالي، حولت عصابات المخدرات كولومبيا من بلد مصدر صاف إلى بلد مستورد صاف. وارتفعت السلع المستوردة بصورة غير شرعية ثلاثة أضعاف بين العامين 1989 و،1997 فبلغ حجمها 4.14 مليار دولار مما أنتج عجزا مقداره 9.2 مليار دولار. وطبعا لا تحسب هذه الأرقام أرباح تصدير حوالي 500 طن متري من الكوكايين وستة أطنان من الهيروين سنويا من كولومبيا. ويقول خبراء اقتصاديون ان تجارة المخدرات تمثل 3 إلى 15% من اجمالي قيمة الاقتصاد الكولومبي التي بلغت 90 مليار دولار في السنة الماضية. عندما بدأ بارونات الكوكايين الكولومبيون يهربون أرباحهم غير الشرعية إلى البلد قبل حوالي 20 سنة، أدى ذلك إلى ازدهار حركة البناء بشكل خيالي. وأدى اقبال زعماء العصابات على شراء أفضل المزارع إلى ارتفاع أسعار الأراضي أربعة أو خمسة أضعاف في بعض المناطق. ويقول اليهاندرو ريس، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الوطنية: إن في هذه المرحلة اشترى تجار المخدرات حوالي ثلث الأراضي الصالحة للرعي في البلاد والبالغة مساحتها 35 ألف ميل مربع. وأسفرت موجة شراء المراعي هذه إلى هجرة الفلاحين، وألحقت أضرارا في انتاج المحاصيل الزراعية وشجعت على بروز جماعات ميليشاوية يمينية هي اليوم مسئولة عن معظم الاغتيالات السياسية التي تقع في البلاد. وقد استثمر زعماء عصابات المخدرات مبالغ كبيرة أيضا في قطاع البناء والتنمية العقارية في المدن. ويشير جريجوري باسيك، الخبير المالي السابق في شعبة مكافحة المخدرات الأمريكية والذي يعمل حاليا في المركز الوطني للاستخبار عن المخدرات، انه »في أواخر الثمانينات ومطلع التسعينيات شهدنا نموا متسارعا. ورأينا قطاع البناء يجن جنونه. لقد تغير شكل الأفق في ميدلين وكالي وبوجوتا (المدث الثلاث الكبرى في كولومبيا بشكل جذري«. وعندما حدث الركود الاقتصادي في العام 1998 انهار سوق العقارات. ويقول ريس: اليوم نصف البلد مطروح للبيع ولكن لا أحد يشتري. وكوريا، مربى الأبقار الذي أشرنا إليه أعلاه، يقول ان ثمن أفضل الأراضي السهلية الخضراء المحيطة بمدينة بوجوتا لا يزيد على ثلاثة آلاف دولار للفدان (75 سنتا للمتر المربع)، أي بحوالي ثلث الثمن قبل سنتين، ومع ذلك لا أحد يشتري. والواقع ان قطاع انتاج الألبان أصبح صناعة غير مربحة، وقد خرج العديد من المزارعين من هذا الميدان. وفي مناطق أخرى تحول عمال مزارع عاطلون عن العمل إلى تجارة المخدرات (يعملون في جميع أوراق شجرة الكوكا). وحتى قبل الأزمات المالية الروسية والآسيوية التي أبعدت المستثمرين العالميين عن الأسواق الناشئة، بما فيها كولومبيا، كان زعماء عصابات المخدرات قد باشروا نقل أموالهم إلى الخارج، حسب ما يعتقد الخبراء. وابتداء من العام ،1995 بدأت الشرطة عمليات مداهمة - بمساعدة أمريكية - أدت إلى اعتقال كبار قادة عصابة كالي ومصادرة مزارع المهربين وقصورهم. وبذلك أصبح الاستثمار في الممتلكات العقارية - وحتى في المنازل - أمرا خطرا بالنسبة للعصابات. ويعتقد خبراء الشرطة والمحللون ان بارونات المخدرات من الجيل الثالث في كولومبيا قد حولوا جزء كبير من أرباحهم إلى بنوك الاوفشور في منطقة الكاريبي وأماكن أخرى من أجل الاستفادة من غياب الرقابة الصارمة على تدفق الأموال. ويقول ريس ان تدفق أموال المخدرات إلى كولومبيا قد تراجع إلى حد كبير في السنوات القليلة الماضية. والحقيقة ان تجار المخدرات ليسو وحدهم الذين يسحبون أموالهم من كولومبيا، بل ان الأثرياء الكولومبيين أخذوا يحولون استثماراتهم إلى الخارج. وهذا، في رأي مدير البنك المركزي سلامون كالمانوفيتش، دليل على فقدان الثقة باقتصاد البلد. ويقول كالمانوفيتش ان استثمارات الكولومبيين في الخارج بلغت 670 مليون دولار في السنوات الثماني الأولى من ،1999 أي ضعفي الاستثمارات في العام 1998 وثلاثة أضعاف المبلغ في العام 1997. وفي شهر سبتمبر الماضي أمن الرئيس اندريس باسترانا قروضا قيمتها 9.6 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي ومؤسسات تسليف أخرى، وهو ينوي استخدام هذه القروض لاحياء الاقتصاد الذي تقلص بنسبة 7.6% خلال النصف الأول من 1999. كما تحاول حكومته أن تكافح الاستيراد غير الشرعي بالقوانين الصارمة والغرامات المالية الثقيلة. ويقول الخبراء انه يتوجب على الحكومة أن تتحرك بحذر إذا كانت تريد انقاذ كولومبيا من أزمتها. ويعتقد العديد من الخبراء ان حملة الحكومة على الاستيراد غير الشرعي وتبييض الأموال سوف تؤدي إلى تفاقم الأزمة في الأمد القصير، مع ان هذا الجهد مشكور ويستحق التقدير. يقول باسيك: فور ان يقرر تجار المخدرات بدلا من الحكومة أو القطاع الصناعي، أين تذهب الرساميل فإنك تصبح في مشكلة.

Email