ذاكرة المكان في تراث الإمارات (1-2)

البيوت القديمة ارتبطت بالعادات والتقاليد وأنماط العيش

ت + ت - الحجم الطبيعي

لفتَ نظري ما دوّنه الراحلُ الدكتور محمد مرسي عبدالله، رحمه الله، في كتابه: قراءة حديثة في تاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة الصادر عام 1999، من أنّه لابد لدارس تاريخ الإمارات أن يعرف شيئاً عن الجغرافيا، وأن يفهم شيئاً عن مسير السياسة الدولية، وأن يتعرف إلى عادات وتقاليد وتراث المجتمع، وأن يلمّ بشيء من عِلم الجيولوجيا وقصة تكوّن الأرض. وهي لفتات مهمة وجب الانتباه إليها، واعتبارها قاعدة تقوم على أسسها المعرفة التاريخية الشاملة.

أسماء ومسميات وتفسيرات

ومن هذا المنطلق يتبادر إلى الذهن كثيراً لِمَ أطلق أسلافنا هذا الاسم على هذا المكان؟ ولماذا يحمل هذا الموضع هذا الاسم تحديداً؟ ولِمَ تسمّى هذا الموقع بهذا المسمّى؟ ومنذ متى هذا المكان يُطلق عليه هذا الاسم؟ وهكذا تثار الأسئلة والاستفسارات في أذهان الكثيرين من عامّة النّاس، ومن الباحثين، ومن المتخصّصين وغيرهم. وربط بعضهم الأسماء والأحداث والمواضع بالقصص القرآني وتاريخ الأنبياء والمرسلين وسِيَرهم عليهم السّلام حتى ادّعى أحدهم في الزمن القديم أنّ إقليم عمان التاريخي المعروف، سُمّي بعمان بن سنان بن إبراهيم، لأنّه كان أوّل مَن اختطّها. أو يدّعي خطأً من أنّ عمان منسوبة إلى عمان بن إبراهيم الخليل، أو إلى عمان بن سبأ بن يفثان أو إلى نفثان بن إبراهيم خليل الرحمن عليه السّلام. وأحياناً تنسب بعض العيون إلى أحد الأنبياء، كما تنسب بعض أنواع السقي إلى نبيّ من الأنبياء.

مهابة الأسماء وهيبتها

ومن هنا يمكننا القول بصورة عامّة إنّ نسبة بناء المدن القديمة إلى الأنبياء والمرسلين عليهم السّلام أو نسبتها إلى الأولياء والصّالحين أو نسبتها إلى أشخاصٍ مغرقين في القدم تضفي نوعاً من القداسة والمهابة والقِدم الزمني لهذا الموضع وهذه البلدة، والأمثلة كثيرة على ذلك خاصّة حين لا يمتلك الإخباريّون والرّواة والقصّاصون تعليلاً لهذه المسمّيات ولا يفهمون كنهها ومعانيها. وأغلب هذه التّعليلات ليس لها أصل لأنّها تعتمد على أساطير وأنساب غير واقعيّة ولا تمتّ إلى الحقيقة بصلة. وبصورة عامّة فإنّ كثيراً من أسماء المواضع الجغرافيّة لا تعلّل أو بالأحرى لا يوجد لها سبب معروف إلا في حالات الأشكال التّضاريسيّة لهذه الأماكن.

برج مراقبة تاريخي في رأس الخيمة

 

تحريفات وتحويرات

وفي كثيرٍ من الأحيان يحدث تصحيف وتحريف وخطأ في النّقل والتدوين ثمّ يتداول النّاس عَبر الأزمان هذه المسمّيات جيلاً بعد جيل. وكثير من النَّقَلَة ليست لديهم خبرة كافية في علوم الأنساب والجغرافيا والتشكيلات الجيولوجيّة والهيئات التضاريسيّة. وأحياناً يتعامل الأهالي مع أسماء المواضع على مختلف معانيها، وتنوّع إشاراتها، وقد لا يجدون لها تفسيراً في بعض الأحيان، وهم قد توارثوها من أسلافهم، وهم بالتالي يحفظونها كما تلقّوها. وهم في كلّ تلك الأسماء يحدّدون مواضعها بدقّة بناء على مرورهم بها أو سكناهم فيها أو إقامتهم في أطرافٍ منها.

جغرافيا وتضاريس وجيولوجيا

وبصورة عامّة فإنّ أسماء الأماكن تعكس، كما هو الحال في كثيرٍ من بلدان العالَم، مجموعة من المؤثّرات الدّالّة على الشكل أو الطبيعة أو الهيئة أو البيئة أو المكان أو الصفة أو اللون أو الظواهر الطبيعيّة أو المعالِم الحياتيّة أو الأوصاف الراهنة للمكان وقت وقوع حدث معيّن ثمّ يصبح هذا الحدث عَلماً على هذا المكان، ويتناقل خبره النّاس جيلاً بعد جيل.

ويغلب أحياناً على أسماء المواضع الاشتقاق من ظاهرات طبيعيّة وتضاريسيّة، مثل: خورفكّان، وخور كلبا. وبعضها تصغير لأسماء مثل: خور خوير. ومن ضمنها الرؤوس البحريّة التي تنطبق على تلك النتوءات البارزة والممتدّة في البحر. وهي تكاد تنحصر في الشواطئ والسواحل. وأحياناً يرتبط الاسم بالماء من أفلاج وآبار، وأشكال تجمّع المياه أو في التكوينات الصخريّة أو الرمليّة الحاملة للماء الباطني أو الظاهري أو طريقة انحدار الماء وسيلانه وجريه أو تسرّبه في الأرض. وفي أحيانٍ أخرى تتوافق بعض أشكال الانحدار أو النّحت في الصخر أو الحفر في الأرض مع أسماء الوديان وانسياحها سواء كانت في مناطق الجبال أو السيوح أو البوادي. وربما ارتبطت بعض الأسماء خاصّة المعماريّة منها بأسماء منشئيها أو بأسماء أشهر مَن أمر بحفرها أو أبرز مَن أقام فيها، وعلى الرغم من مرور الزمن إلا أنّ الاسم ظلّ عالقاً بالذّاكرة الشّعبيّة جيلاً بعد جيل. وربما ارتبط الاسم بشكل تصميمي وهندسيّ مثل: مسمّى سور وحصن ومربّعة وغرفة وحجرة. وربما ارتبط الاسم بمهنة أو بحرفة. كما تعكس بعض الأسماء التوسّط الجغرافي بين مواضع محيطة. وبعض الأسماء تعكس طبيعة الماء من ملوحة وعذوبة وعمق وصفاء وسقي وجريان. أو شكل المكان وموضعه من الجبال أو السهول أو الرمال.

بعض الأسماء خاصة المعمارية ارتبطت بأسماء منشئيها أو بأشهر مَن أمر بحفرها أو أقام فيها

 

مؤلَّفات قديمة لنماذج معماريّة

ومنذ زمن حرص بعض كتّابنا القدماء على تدوين معلومات حول العمارة والبناء، وينسبونها إلى منشئيها الأوائل. فهذا يوسف بن محمد الشريف صاحب كتاب: (الحوليَّات في تاريخ الإمارات)، يذكر أنّه في رجب 1318هـ (أكتوبر/‏‏ نوفمبر 1900م) بنى الشيخ حمد بن ماجد بن سلطان القاسمي، نائب حاكم الشارقة في رأس الخيمة، برجاً في سور بلدة رأس الخيمة، إلا أنّه لم يحدّد موضع هذا البرج من السور. وكان السور يقع في الجهة الجنوبيّة من البلدة. ومن الجدير بالإشارة إلى أنّ أسوار المدن الساحليّة تهاوت مع حلول القرن العشرين.

وأيضاً قوله إنّ الشيخ صقر بن خالد بنى برج خت الواقع فوق المدينة في 24 ذي القعدة 1318هـ (14 مارس 1901م)، وقوله أيضاً إنّه في غرة رمضان 1319هـ (11 ديسمبر 1901م) ابتنى الشيخ صقر بن خالد بن سلطان في العريبي. دون تثبيت نوعيّة هذا البناء إلا أنّ هذه العمارة تمّتْ في مربّعة العريبي الشّهيرة، وقد سمّاه حصن العريبي، وذكر أنّه يسمَّى أيضاً حصن الصّير. ودوّن أيضاً أنّه في شوَّال 1322هـ (ديسمبر 1904/‏‏ يناير 1905م) بنى محزم بن محمد بن محزم بن عبد الرحمن بن صقر الزعابي في الجزيرة برجاً خلف الخور. وبنى الشيخ سالم بن سلطان بن صقر القاسمي برج أبو شاق الغربي الواقع على الساحل قرب النَّديَّة. ومن ثوابت العمران كذلك قوله إنّ الشيخ سالم بن سلطان بن صقر القاسمي بنى برج خزام الواقع عند المقطع، فوق النَّد في يوم السبت 24 جمادى الأولى 1330هـ (11 مايو 1912م). وهذه من النّماذج الجليّة الدّالّة على نسبة العمائر إلى منشئيها وزمن بنائها إلا أنّ كثيراً من العمائر الأخرى تبقى محلّاً للظنّ والافتراض.

اهتمامات كتابيّة حديثة

وفي العقود التي تلتْ قيام الدولة الاتحاديّة حدث نوع من الاهتمام العلمي المنظّم بأشكال السطح وبمسميّات الأماكن وهيئات التضاريس، ومن هذه الدراسات المبكرة كتاب: دولة الإمارات العربيّة المتّحدة: دراسة مسحيّة شاملة، تصنيف مجموعة مِن المؤلِّفين بإشراف: يوسف أبي الحجّاج، ومن إصدار المنظّمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم بالقاهرة عام 1978. وتولّى الدكتور يوسف حينها بعد ذلك رئاسة قسم الجغرافيا في جامعة الإمارات العربية المتحدة. وقد شارك في إعداد هذا المصنَّف مجموعة من العلماء العرب المشهود لهم بالعلميّة والفضل من أقطار عربيّة مختلفة. والكتاب ضخم، زاخر بكلّ ما يمتّ بأرض الإمارات بصلة من جغرافيا وجيولوجيا وتضاريس وتاريخ واقتصاد وسكّان وبيئة. وفيه تركيز كبير على مظاهر السطح الدّالّة على أسماء المواضع.

 

صفحة متخصصة بالتراث والبحث في مفردات المكان

Email