كان عضواً في جماعة أبوللو وغنى محمد عبد الوهاب عدداً من قصائده

علي محمود طه.. شاعر الرومانسية العربية

علي محمود طه

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما دمنا نلتقي بشعراء مصر، الذين كان لهم شأن في الشعر العربي الحديث خاصة بعد انتهاء الوجود العثماني في الوطن العربي، فلا بد لنا من طرق باب الشاعر علي محمود طه، الذي يعتبر من أعلام الرومانسية.

وكعادتنا نطرق بابه وندخل إلى عالمه، طالبين الاستيقاظ من سبات الموت، ليجيب عن أسئلتنا التي ما زالت تثير فينا الكثير من الحماسة لمعرفة أهم ما لدى هذا الشاعر الرومانسي الرقيق.

 

قلت: سلام عليك أيها الشاعر الرومانسي.

قال: أهذه تهمة أم مديح؟

 

قلت: بل مديح.. ألا توافق على هذا اللقب؟

قال: هذا اللقب يحصرني في زاوية ضيقة، لأن شعري لا يقتصر على الرومانسية.

 

قلت: متى ولدت وأين؟

قال: ولدت عام 1902 في مدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية، وهي المدينة التي قضيت معظم شبابي فيها.

 

قلت: يقال إنك بدأت التعلم في الكتّاب كغيرك من أبناء جيلك، وذلك قبل أن تنتقل إلى المدرسة الابتدائية.

قال: هذا صحيح.

 

قلت: وبعد ذلك.

قال: انتقلت إلى مدرسة الفنون والصناعات التطبيقية.

 

قلت: أليس هذا غريباً.

قال: وما الغرابة؟

 

قلت: ظنتك ستدرس الأدب العربي.

قال: ومن أخبرك أن جميع الشعراء درسوا الشعر أو الأدب؟ كثير من الشعراء كانوا أطباء أو رجال أعمال واقتصاد.. وأنا إذا كنت تعتبرني شاعراً فأنا معماري وعينت في هندسة المباني في المنصورة، ثم اتصلت بعد ذلك ببعض رجال السياسة، فعملت في سكرتارية مجلس النواب، ثم صرت وكيلاً لدار الكتب المصرية.

 

قلت: يقال إنك لم تتزوج.

قال: هذا صحيح.

 

قلت: ألم تقع في الحب؟

قال: الحب والشعر توأمان، لا شعر بغير الحب.


قلت: هل يمكن أن تحدثنا عن حبك ولماذا لم يتكلل بالزواج؟

قال: في مطلع شبابي أحببت فتاة يونانية ثرية تسكن في المنصورة.

 

قلت: وإلى أين وصل هذا الحب؟

قال: إلى الفشل الذريع.

 

قلت: لماذا؟

قال: كانت غنية جداً، وكان غناها جداراً حاجزاً بيننا، وأنت تعرف عنفوان العربي، فكيف إذا كان هذا العربي العاشق شاعراً؟

 

قلت: ألم تقع في حب آخر؟

قال: لماذا تقول وقعت؟ وهل الحب سقطة؟

 

قلت: آسف لم أقصد.

قال: الحقيقة الحب الذي عشته بعد ذلك كان سقطة، إذ إنني وقعت في حب امرأة ألمانية متزوجة.

 

قلت: متزوجة؟

قال: نعم.. ولكنها لم تكن تحب زوجها.

 

قلت: والنتيجة

قال: عشت ومت دون أن أتزوج.

 

قلت: وماذا كان تأثير هذا الحب الفاشل على شعرك؟

قال: كان شعري صدى لتجاربي.

 

قلت: على سبيل المثال.

قال: خذ مثلاً قصيدة التمثال.. المستلهمة من أسطورة بيجماليون، والتي استطعت أن أنقلها من مجالها الكلاسيكي الأسطوري على شاعريتي الرومانسية حيث تعلقت بالعذاب المبدع.

 

صاح بالشمس: لا يُرعْكِ عذابي

                  فاسكبي النارَ في دمي، وأريقِي

نارُكِ المشتهاةُ أندى على القلب

                 وأحنى من الفؤاد الشفيقِ

فخذي الجسمَ حفنةً من رمادٍ

                 وخذي الروحَ شُعلةً من حريقِ

جُنَّ قلبي فما يرى دَمَهُ القاني

                 على خِنجرِ القضاءِ الرقيقِ

 

قلت: هذا يؤكد اتجاهك الرومانسي

قال: لا أنكر الرومانسية في شعري، ولكن لم أحصر نفسي فيها، لأنك تجد في شعري تصويراً حسيا للذائذ الحياة، وما فيها من رقص وغناء، لذلك يمكنك أن تقول إن شعري تقلب بين الرومانسية والكلاسيكية

 

قلت: وأين تتجلى نزعتك الكلاسيكية؟

قال: تتجلى في عدد كبير من القصائد مثل قصائد الرثاء لحافظ إبراهيم وأحمد شوقي... ومحمد عبد المعطي الهمشري، وصاحب جريدة الأهرام جبرائيل تقلا، وشكيب أرسلان، وهناك قصائد مناسبات في الملك فاروق وأسرته، وفي ذكرى وفاة محمد علي الكبير، كما نظمت الكثير من القصائد القومية في شهيد ميسلون يوسف العظمة، وفي عبد الكريم الخطابي.

 

قلت: من جميل ما أذكره لك في قصيدتك التي خاطبت فيها الشهيد يوسف العظمة بيتان تقول فيهما:

قم لحظةً وانظر دمشق وقل لها

                  عــاد الكميُّ مع النفيـر الصــادح

ودعاكِ يا بنت العروبة فانهضي

                   واستقبلي الفجر الجديد وصافحي

 

قال: هذه من القصائد التي أعتز بها حقاً.

 

قلت: كنت عضواً في جماعة أبوللو، وهذه الجماعة أرست أسس الرومانسية في الشعر العربي.

قال: قدمت هذه الجماعة للشعر العربي الكثير.

 

قلت: هل تعرف ما قاله عنك الأديب والناقد المعروف أحمد حسن الزيات؟

قال: كان، رحمه الله، معجباً ومقدراً ولكنني لا أذكر ما قاله.

 

قلت: قال: كان علي محمود طه شاباً منضور الطلعة، مسجور العاطفة، مسحور المخيلة، لا يبصر غير الجمال، ولا ينشد غير الحب، ولا يحسب الوجود إلا قصيدة من الغزل السماوي ينشدها الدهر ويرقص عليها الفلك.

قال: كان صادقاً في هذا الوصف، ولقد عرفني حق المعرفة وكلماته تدل على ذلك.

 

قلت: إذا طلبنا منك أن تخبرنا عن تجارب أحدثت تغييراً في نفسك، فماذا تقول ؟

قال: تجاربي في السفر إلى أوروبا وخاصة رحلات الصيف التي بدأت من عام 1938.

 

قلت: وكيف أثرت هذه الأسفار فيك؟

قال: زرت عدداً من البلدان الأوروبية، فأحدثت هذه الزيارات انقلاباً في نفسي، وفتحت أمامي آفاقاً شعرية جديدة، فلما زرت مدينة فينيسيا (البندقية) في صيف عام 1938، وحضرت الاحتفال السنوي فيها نظمت قصيدة الجندول، التي غناها مطرب الملوك محمد عبد الوهاب، وهذه القصيدة المغناة جلبت لي الشهرة الواسعة.

 

قلت: ولكن المرحوم محمد عبد الوهاب غنى لك العديد من القصائد.

قال: هذا صحيح.. ولكن الجندول وكليوباترا كانتا أهم ما غناه لي هذا الموسيقار الرائع.

 

قلت: ولدت سنة 1902 في القاهرة، ورحلت عن الحياة عام 1949، أي أنك عشت أقل من سبعة وأربعين عاماً.

قال: ولدت ودفنت في بلدي المنصورة، والأعمار بيد الله.

 

قلت: ولكن إنتاجك مع هذا العمر القصير كان رائعاً ووافراً فهل تذكر لنا بعض إنتاجك؟

قال: أصدرت ست مجموعات شعرية وكتاباً من النثر الخفيف ومسرحية غنائية.

 

قلت: وما عناوين هذا الإنتاج؟

قال: سنة 1934 أصدرت ديوان الملاح التائه، وفي هذا الديوان نظمت قصيدة البحيرة، وهي ترجمة لقصيدة البحيرة للشاعر الفرنسي الرومانسي لامارتين.

 

قلت: والمجموعة الثانية ؟

قال: الثانية صدرت عام 1940 بعنوان ليالي الملاح التائه ومن أهم قصائدها الجندول.

 

قلت: والمجموعة الشعرية الثالثة

قال: أرواح وأشباح وصدر في سنة 1942، أما المجموعة الرابعة فهي زهر وخمر سنة 1943 وتتصدرها قصيدة ليالي كليوباترا، التي غناها محمد عبد الوهاب، أما الخامسة فهي الشوق العائد 1945 والسادسة شرق وغرب 1947.

 

قلت: آن الأوان أن تختار لنا إحدى قصائدك.

قال: أختار قصيدة الملاح التائه.

 

الملاح التائه

 

أيها الملَّاحُ قُمْ واطْوِ الشّراعا

              لِمَ نطــوي لُجَّةَ اللّيـل سـراعَــا

جَــدِّفِ الآن بنا في هينـــــــةٍ

           وجهة الشاطئ سيرًا واتبــاعَـا

فغــدًا يا صاحِبِـي تــأخذُنَــــا

          موجةُ الأيــام قـذفًا وانـدفَــاعَـا

عبثًا تقفو خُطا الماضي الذي

          خِلْتَ أنَّ البحـــرَ واراهُ ابتـلاعَا

لم يكنْ غيرَ أويقـــــاتِ هوًى

          وقفتْ عن دورةِ الدهر انقطاعَا

فَتَمَهَّــلْ، تسعـــد الرُّوحُ بمَــا

          وهِمَتْ، أو تطربِ النفسُ سماعَا

وَدَعِ الليلـــةَ تمضــي إنهــــا

          لم تكــنْ أولَ ما ولَّى وضَـــاعَــا

سوف يبدو الفجرُ في آثارها

          ثم يمضي في دواليــكَ تبــاعَـــا

هذه الأرضُ انتشتْ ممّا بهــا

          فغفتْ تحلُم بالخلـــدِ خـــــــداعَـا

قد طواها الليلُ حتى أوشكتْ

          من عميقِ الصمتِ فيه أن تُراعَا

إنَّهُ الصَّمتُ الذي في طيِّــــهِ

          أسفرَ المجهولُ والمستـورُ ذاعَا

سَمِعَتْ فيه هُتَـــافَ المُنْتَهَى

          من وراءِ الغيب يُقريها الوداعَا

أيها الأحياءُ غنّوا واطربوا

          وانهبوا من غفلات الدهرِ ساعَا

آهِ ما أروعَهـــا من ليلــــةٍ

          فاضَ في أرجائها السحرُ وشاعَا

نَفَخَ الحـبُّ بها من روحِــــه

          ورَمَى عن سِرِّها الخافي القناعَا

وجلا من صُوَرِ الحســنِ لنا

          عبقـــريّــاً لَبِقَ الفَـــنِّ صنَـــــاعَا

نفحـــاتٌ رَقَص البحــرُ لها

          وهفَا النجــمُ خُفــوقــاً والتمــاعَا

وسَرَى من جانبِ الأرض صدًى

          حَــرَّكَ العُشْبَ حَـنـانـاً واليَـراعَا

بَعَثَ الأحــــلامَ من هجعتِهـا

          كسَرايَـا الطَّيْـــرِ نُفّرْنَ ارتيَـاعَــا

قُمْنَ بالشاطئِ من وادي الهوى

          بنشيــد الحبِّ يهتفــنَ ابتـــداعَـا

أيها الهاجـــرُ عــــزَّ الملتقى

          وأذبتَ القلبَ صـــدّاً وامْتنَــاعَــا

أدركِ التائهَ في بَحْرِ الهَوَى

          قَبْلَ أنْ يَقْتُلَهُ المَــــوْجُ صِراعَـــا

وارعَ في الدنيا طريدًا شاردًا

          عنه ضاقتْ رقعةُ الأرض اتِّساعَا

ضلَّ في الليل سُراهُ، ومَضَى

          لا يَـرَى في أفقٍ مِنْهُ شُعَـــــاعَــــا

يجتـــــوي اللافح من حرقته

          وعــذابٍ يشعــلُ الرُّوحَ التيــاعَـــا

والأسى الخالدُ من ماضٍ عفا

          والهَوَى الثائـــــر في قلبٍ تَــداعَى

فاجعلِ البحــرَ أمـــانًا حـولــه

          واملأ السّهــلَ سَـلامــاً واليفــاعَــا

وامْسَـــــحِ الآنَ على آلامِـــهِ

          بِيَدِ الرّفقِ التي تَمْحُـــو الدّمَـــاعَــا

وَقُــدِ الفلكَ إلى بَـــرِّ الرِّضَـــا

          وانشُرِ الحـبَّ على الفُلْكِ شِراعَـــا

 

صفحة متخصّصة تضيء على سير وإبداعات قامات العربي

Email