حافظ إبراهيم 2-2.. شاعر رائد انتصر لقضايا المرأة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعرفنا في لقائنا السابق، إلى بعض جوانب سيرة الشاعر العربي المصري حافظ إبراهيم، ولكن شعرنا بأننا بحاجة للدخول إلى تفاصيل مهمة من حياة وشعر ذلك الشاعر الذي شكل مع أمير الشعراء أحمد شوقي ثنائياً منسجماً، وكان للشاعرين أثر كبير في النهضة الشعرية التي شهدتها البلاد العربية وخصوصاً في أواخر الحكم العثماني وبداية حركات الاستقلال والتحرر سواء من السيطرة العثمانية أو الاستعمار البريطاني والفرنسي.

اعتذار وفرصة للتوضيح

وما دام في مقدورنا أن نستحضر روح ذلك الشاعر أو تخيل تلك المقدرة، فلا بأس أن نكمل لقاءنا المثير مع شاعر النيل حافظ إبراهيم.

أولاً: أبدأ بالاعتذار عن بعض أسئلتي المزعجة التي طرحتها عليك في لقائنا الأول.

ابتسم الشاعر الذي نادراً ما يبتسم، وقال:

لم أنزعج أبداً، بالعكس كانت فرصة لي لتوضيح الظلم الذي مارسته ضدي بعض حملات الكراهية.

- من حقك ألا تجيب عن أي سؤالٍ محرج.

 

لن تحرجني أبداً بأي سؤال.

قلت: غضبت؟

قال: قل ما عندك؟

قلت: من قصائدك الرائعة، قصيدة حريق ميت غمر التي نشرتها في السابع من مايو 1902، ما قصتها؟

قال: ميت غمر مدينة تابعة لمحافظة الدقهلية في مصر شبت فيها النار يوم الخميس أول مايو 1902 واستمر الحريق ثمانية أيام، ومات الكثيرون وهبت مصر للتبرع بالمال لتخفيف ويلات هذا الحريق، وكانت قصيدتي مشاركة في هذه الهبّة واستطعت من خلالها تحفيز الكثيرين على التبرع.

قلت: إذن كان للقصيدة وظيفة محددة، تحفيز الناس على التبرع.

قال: تريد أن تنكر مدى تأثري كإنسان وكوطني بهذا المصاب.

قلت: أبداً.. ولكن أن تحقق قصيدتك الغرض فهذا موقف إيجابي يسجل لك.

قال: كلما تذكرت هذه القصيدة سالت دموعي أسى على المصابين وما زلت أحفظها عن ظهر قلب.

- هل نسمع بعض أبياتها منك؟

 

سائِلُوا اللَّيْلَ عَنْهُمُ وَالنَّهَـارا

كَيفَ باتَتْ نِساؤُهُمْ وَالعَـذارَى

 

كَيفَ أَمْسى رَضِيعُهُـمْ فَقَـدَ الأُمّ

وَكَيفَ اصْطَلَى مَعَ القَومِ نَـارا

 

كَيفَ طَـاحَ العَجُــوزُ تَحْتَ جِدارٍ

يَتَــــداعَى وَأَسْقُفٍ تَتَجَــــارى

 

رَبِّ إِنَّ القَضَــاءَ أَنْحَى عَلَيْهِــمْ

فَاكْشِفِ الكَرْبَ وَاحْجُبِ الأَقْدَارَا

 

وَمُرِ النّـــــارَ أَن تَكُفَّ أَذَاهَــــا

وَمُرِ الغَيْثَ أَن يَسِيلَ انْهِمَــارا

 

إلى أن أقول:

 

 أَيُّها الرَّافِلُونَ في حُلَلِ الوَشْيِ

يَجُــــرّونَ لِلذُّيُـــــولِ افْتِخَـــارَا

 

إِنَّ فَوْقَ العَــرَاءِ قَـوْماً جِيَـــاعــاً

يَتَــــوَارَوْنَ ذِلَّـةً وَانْكِسَـــــــارَا

قلت: واضح ما في هذه القصيدة من عاطفة صادقة، وما أدته من تحفيز الجميع على العطاء.

قال: كثيرة هي القصائد التي نظمتها في أحداث جليلة مرت بها مصر خلال السنوات التي عشتها فيها.

قلت: خرج صديقك ورفيق مسيرتك أمير الشعراء أحمد شوقي من مصر، وكرم في لبنان وفي سوريا وعاش في المنفى في إسبانيا، وأنت تمسكت بالعيش في مصر.

قال: هذا صحيح.. فشوقي كان غنياً ميسوراً، وأنا كنت رغم شهرتي فقير الحال، كسير الأجنحة.

- ولكنْ السوريون كرموك.

كرموني هنا في مصر، ولم أذهب إليهم.

- حدثنا عن ذلك.

أقام جماعة من السوريين حفلاً تكريمياً لي في فندق شبرد في القاهرة، وفي هذا الحفل ألقيت قصيدتي التي نالت رضا الجميع سواء في مصر وفي سوريا.

- وماذا قلت فيها:

 قلت:

لِمِصرَ أَم لِرُبُوعِ الشَّــامِ تَنتَسِبُ

هُنا العُلاَ وَهُناكَ المَجْدُ وَالحَسَبُ

 

رُكْنَانِ لِلشَّرْقِ لاَ زَالَتْ رُبُوعُهُما

قَلبُ الهِـــلاَلِ عَلَيْها خَافِقٌ يَجِـبُ

 

خِدرَانِ لِلضَّادِ لَم تُهتَكْ سُتُورُهُمَا

وَلا تَحَـوَّلَ عَـنْ مَغْنَـاهُمَـا الأَدَبُ

 

أُمُّ اللُغَــاتِ غَــداةَ الفَخْـرِ أُمُّهُمَـا

وَإِن سَأَلتَ عَنِ الآبَــاءِ فَالعَــرَبُ

 

إِذا أَلَمَّتْ بِـــــوَادِي النِّيـلِ نَـازِلَةٌ

بَاتَتْ لَهَا راسِيَاتُ الشَّامِ تَضْطَرِبُ

 

إلى أن أقول:

هَذي يَدي عَن بَنِي مِصْرٍ تُصَافِحُكُم

فَصافِحُوهَا تُصَافِحُ نَفْسَهَا العَرَبُ

قلت: هذا البيت انتشر انتشار النار في الهشيم، لماذا برأيك؟

قال: لأنه حرك مشاعر جميع القلوب، ولا أنسى إصرار الجميع على مصافحتي بعد القصيدة، ليتحقق الغرض وهو الشعور بالوحدة العربية.

قلت: مما يذكر لك وقوفك مع المرأة ودفاعك عن حقوقها.

قال: لأن المرأة في مصر وفي العهد الذي عشت فيه قدمت ما يستحق دعمها وتأييدها.

قلت: فماذا قلت؟

قال: قلت الكثير.. إليك هذه الأبيات التي نشرتها في أبريل 1928.

 

إِلَيكُنَّ يُهْدِي النِّيلُ أَلْفَ تَحِيَّةٍ

مُعَطَّــرَةٍ في أَسْطُـرٍ عَطِـراتِ

 

وَيُثْنِي عَلَى أَعْمَالِكُـنَّ مُوَكِّلِي

بِإِطرَاءِ أَهْلِ البِرِّ وَالحَسَنَــاتِ

 

صَنَعْتُنَّ ما يُعْيِي الرِّجالَ صَنيعُهُ

فَزِدْتُنَّ في الخَيْراتِ وَالبَرَكاتِ

 

يَقُولُونَ نِصْفُ النّاسِ في الشَّرْقِ عَاطِلٌ

نِساءٌ قَضَيْنَ العُمْرَ فِي الحُجُرَاتِ

 

وَهَذِي بَناتُ النِّيلِ يَعْمَلْنَ لِلنُّهَى

وَيَغْرِسْنَ غَرْساً دَانِيَ الثَّمَرَاتِ

 

صَفِيَّةُ قَـادَتْكُــنَّ لِلْمَجْــدِ وَالعُـلاَ

كَما كَانَ سَعْـدٌ قَـائِــدَ السرَواتِ

 

قلت: آن الأوان الآن لتختار لنا قصيدة الختام فماذا تختار؟

قال: كأنك تريدني أن أفاضل بين أبنائي وبناتي جميع قصائدي غالية عليّ.. ولكنني أختار لك قصيدة «اللغة العربية تشكو».

 

القصيدة

«اللغة العربية تشكو»

 

رَجَعْتُ لِنَفسي فَاتَّهَمتُ حَصَـاتِـي

وَنادَيتُ قَومي فَاِحتَسَبتُ حَيَـاتي

 

رَمَوْنِي بِعُقْمٍ فِي الشَّبَـابِ وَلَيْتَنِـي

عَقِمتُ فَلَم أَجزَع لِقَـولِ عُـــداتي

 

وَسِعْتُ كِتَــابَ اللَهِ لَفظــاً وَغــايَـةً

وَما ضِقْتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظـــاتِ

 

فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ

وَتَنسيقِ أَسْمَــــاءٍ لِمُختَرَعَــــاتِ

 

 أَنَا البَحْرُ فِي أَحْشائِهِ الدُرُّ كَامِـنٌ

فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي

 

أَيُطْرِبُكُــمْ مِن جانِبِ الغَرْبِ نَـاعِبٌ

يُنَــادِي بِوَأدِي في رَبيــعِ حَيَــاتي

 

سَقى اللَهُ في بَطنِ الجَزيرَةِ أَعظُماً

يَعِـــزُّ عَلَيْهَــا أَن تَلِيــنَ قَنَـــاتِـــي

 

حَفِظْــنَ وِدادِي في البِلى وَحَفِظتُهُ

لَهُـــنَّ بِقَلبٍ دَائِـــمِ الحَسَـــــــراتِ

 

أَرَى كُلَّ يَــوْمٍ بِالجَرائِـــدِ مَزلَقــــاً

مِنَ القَبْـرِ يُــدْنِينِــي بِغَيْــرِ أَنَــــاةِ

 

وَأَسْمَعُ لِلكُتّابِ في مِصْرَ ضَجَّةً

فَأَعلَــمُ أَنَّ الصَّــائِحِيــنَ نُعَــــاتي

 

أَيَهجُرُني قَوْمِي عَفَا اللَهُ عَنْهُـم

إِلى لُـغَــــــةٍ لَمْ تَتَّصِـــــــلْ بِرُوَاةِ

 

سَرَتْ لُوثَةُ الإِفْرِنجِ فيهَا كَما سَرَى

لُعَــابُ الأَفَـاعِـي في مَسيلِ فُرَاتِ

 

فَجاءَت كَثَوْبٍ ضَمَّ سَبْعِينَ رُقعَةً

مُشَكَّلَــــةَ الأَلْـــــوَانِ مُخْتَلِفَــــاتِ

 

إِلَى مَعْشَرِ الكُتّابِ وَالجَمْعُ حافِلٌ

بَسَطْتُ رَجَـائِي بَعْدَ بَسْطِ شَكَـاتي

 

فَإِمّا حَيَاةٌ تَبعَثُ المَيْتَ في البِلَى

وَتُنْبِتُ في تِلْكَ الرُّمُـوسِ رُفَــاتي

 

وَإِمّا مَمَــاتٌ لا قِيَـامَــةَ بَعْـــــدَهُ

مَمَــاتٌ لَعَمرِي لَمْ يُقَسْ بِمَمَــــاتِ

Email