المستقبل فكرة.. دبي تقود مفهوماً جريئاً للاستثمار في الإبداع

ت + ت - الحجم الطبيعي

أهم الاستثمارات في العالم هي التي تدخر في المستقبل؛ بل إن معنى وجدوى الاستثمار مرتبطان بالغد. والغد هو المستقبل. ولا يختلف في ذلك قطاع الأعمال عن عالم الأدب والثقافة والفنون. المستقبل هو باب الأمل المفتوح. الباب الذي لا ينغلق بوجه أي إنسان مهما كان. وهو «الماكينة» التي تحول القليل إلى كثير، وتعيد صياغة اليأس ليكون نافذة تفاؤل مفتوحة على الفرص والإمكانيات.

إنه الشرط الأساسي للاستثمار!

تلفت الانتباه هنا، في الحديث عن المستقبل، فكرة الاستثمار. وعلى وجه التحديد، المعنى والمبنى الذي تقيمه دبي للمستقبل، وفكرتها عنه، ونظرتها إليه.

وفي هذا تبرز ملاحظة مفارقة..

لقد أنشأت دبي أول «متحف» لـ«المستقبل».

و«المتحف»، كما هو معروف، للأشياء الأثرية من العصور الماضية، وللمكونات العتيقة، ولمختلف أنواع الـ«أنتيكا»، وللمأثورات الإبداعية، والمتروكات التاريخية، ولسوى ذلك مما يشبه ما سبق.

و«المستقبل» يمكن أن نراه في المعارض، التي تستعرض أحدث المبتكرات، وأجدد المنتجات، وفي المؤتمرات التي تقدم عرضاً للمستجدات في العلوم والثقافة والفنون.

وبهذا، فإن الجمع بين مفهومي «المتحف» و«المستقبل» فكرة جريئة، تسير باتجاهين؛ الأول، استحضار منجزات الماضي في كلمة واحدة. والثاني، الالتفات أماماً إلى كل ما يمكن أن ينجزه خير الإنسانية.

المعنى الثاني، الذي يلفت الانتباه هنا، هو الجوهر الإدخاري في فكرة «الاستثمار» في المستقبل. أي، توجيه قسم وازن من الطاقات والعقول نحو الغد.

صرح

يعد «متحف المستقبل» واحداً من صروح الاقتصاد الجديد. وأحد العناوين الكبيرة للإعتراف بالثقافة والابداع قطاعاً تنموياً كبيراً وحاسماً. علاوة على كونه أحد أكثر الأيقونات المعمارية إبداعاً وتفرداً في العالم، من خلال تصميم ملهم، ذي دلالات رمزية وفنية وفلسفية وتاريخية، يجمع بين جمال الشكل، وانسيابيته، وشعريته.

ويبرز هذا، على وجه التحديد، في هذا الصرح، من خلال عنوانين رئيسيين:

- اللغة العربية.

- المعمار المبتكر.

وفي هذين العنوانين علامات قوية تقود العقل، وتؤثر في النفس؛ الأولى «العربية بخط الثلث» وهي تنحو في إشارتها إلى الماضي، العتيق، بأجمل صوره.

الثانية، «الابتكار بالعمارة»، الذي خلق أجمل مبنى في العالم. ولأنه كذلك، لم يأتِ على نحو ما جاءت به المعجزات الهندسية، فشكل معجزة ثقافية وحضارية مذهلة، في مبناه ومعناه.

إنه باختصار، يقود العقل إلى التفكير بالمستقبل. وهذه أولى وظائفه.

ما المستقبل؟

تغير مفهوم المستقبل عبر تاريخ البشرية مرات عدة. وقد يكون هذا المفهوم، «المستقبل»، هو واحد من المفاهيم التي لم تستقر على حال بعد؛ ففي عهد الإنسانية الأول كان «المستقبل»، هو العلامة التي يؤشر غيابها على عجز العقل البشري، المقيد بمخاوفه من أخطار يومه الحاضر، بحكم أنه كان بعيداً بعد عن اختراع (أو: وعي) الأمل. كما كان حينها بعيداً عن أن يكون على صلة بفكرة الإيمان.

في مرحلة تالية، مع فكرة «الأمل»، أصبح «المستقبل» يعبر عن فرصة تالية غير متوقعة، ولا معقلنة، ولا يمكن بالأساس التنبؤ بها.

في مرحلة ثالثة، أصبح «المستقبل» مرتبطاً بمصير البشر الآخروي، الذي يلقونه جزاء ما فعلوا في دنياهم؛ فإما هم إلى نعيم الفردوس، أو إلى جحيم لا ينتهي معد للضالين ومبددي معنى وجودهم الإنساني في الدنيا.

وفي مرحلة رابعة، ارتبط المستقبل بإيدلوجيات مؤسسة ومؤثرة وبقضايا كبرى، حيث «المستقبل» يعني نتيجة حتمية لصحة الأيدلوجيا المؤثرة ولعدالة القضية الكبيرة ولقيمة الشرف وبقية القيم المماثلة، ويعني حتمية التمكين والانتصار على الباطل.

واليوم أصبح «المستقبل» علماً تتم دراسته، ويجري التخطيط له. لا بل ويجري الاستثمار فيه، من قبل قطاعات كثيرة لعل أهمها الاقتصاد والعلوم والسياسة.

ولكن السؤال حول ماهية «المستقبل»، لا يزال منذ اختراع (أو: وعي) الأمل يلقى نفس الإجابة: إنه فكرة!

حجم الاستثمار

في الواقع يبدو «المستقبل» فكرة مدهشة فعلاً حينما نكتشف حجم ما يستثمر فيه العالم؛ والعالم هنا تعني البشرية بكافة مستوياتها، من أفراد وأسر ومجتمعات. وجماعات ودول وأمم. وأصحاب مصالح وشركات وعلوم وأيدولوجيا ومن ماثلهم.

وبطبيعة الحال، يجدر التنويه إلى أن نوع الاستثمار في المستقبل متنوع ومتعدد الأشكال والكيفيات، فهو ليس قاصراً على المال؛ هناك من يستثمر فيه بالصلاح والعمل الطيب، وهناك من يستثمر فيه بانتماءاته وآماله، وهناك من يستثمر فيه بالتعليم والصحة والخدمات الاجتماعية، وهناك من يستثمر بتأهيل البنية التحتية وبناء المرافق وتأثيث الحياة المدنية. وهناك من يستثمر فيه في بأفكاره وطروحاته..

وبالطبع هناك استثمارات من الجميع على مستوى المال، وعالم الأعمال.

فكرة الاستثمار في المستقبل تلفت إلى فكرة يصعب أن تحتملها بيئة استثمارية واحدة، ألا وهي تعدد أنواع الاستثمار، والمجموعة الهائلة من أنواع «النقد» المتداولة في هذا القطاع..!

من هنا، فإن ميزة الاستثمار في «المستقبل» هي مرونته الهائلة، وقدرته على ترجمة القيمة مهما كانت إلى أي نوع آخر من القيمة دون الحاجة إلى أسواق صرف، ولا قواعد تسعير. وهو قطاع يمكن أن يسهم فيه أي إنسان بصفاته الشخصية، وآماله، وتطلعاته، وثروته، وإمكانياته ومواهبه.

وكذلك يستطيع أي جسم آخر في المنظومة البشرية أن يفعل، سواء كان جماعة أو شركة أو دولة أو أمة.

مستقبل القيمة

لقد استطاعت العلوم الاقتصادية في مرحلة ما بعد الثورة الصناعية. وعلى وجه التحديد مع بزوغ عصر رأس المال المالي الانتباه إلى أهمية القيم الافتراضية، وحضور المواهب البشرية باعتبارها قيمة اقتصادية، وكذلك إلى أهمية أمور أخرى مثل العدد (الصين مثالاً) والقوة (الولايات المتحدة مثالاً)، والإرادة الوطنية والثروات الطبيعية (روسيا مثالاً). كما انتبهت أمم أخرى إلى أهمية العدالة والمساواة في العمل بين كافة الفئات والجنسين (أوروبا مثالاً)، وأهمية الثقافة (اللغة الانجليزية مثالاً) في خلق قيمة اقتصادية مضافة وميزات تفضيلية.

ولكن..

مفهوم القيمة يتوسع إلى أبعد من مما تتسع جدران البورصات والأسواق المالية. ونحن في زمن تحولات يمكن أن تصبح فيه هذه المؤسسات دوراً اقتصادية تقليدية بالية، لا تتحكم إلا بالنزر القليل من العمليات الاقتصادية المتعلقة بالقيمة.

ويمكن أن نستذكر هنا أن قطاع التكنولوجيا الذكية الذي بدأ مع التطور الهائل في صناعة الأجهزة الكمبيوترية الذكية من حواسيب «مكتبية» و«شخصية» و«هاتفية» قد أنتج معه خلال مدة قصيرة نوعاً جديداً من النقد. وهو ما يسمى بالعملات المشفرة، التي هي اليوم تفرض صيغتها للتداول حتى في المجال الإبداعي من خلال الـ«إن إف تي»، وتواجه البورصات والأسواق العالمية صعوبة في خلق آلية لتطويعها، وإخضاعها لنظمها.

ومن الواضح أن المستقبل فكرة. ومن يلتقط الفكرة يمتلك المستقبل، بغض النظر عن وزنه وحجمه.

توجهات «كورونا»

ألقت الجائحة بظلالها على العالم خلال سنتين. ولكنها أشرت على الاتجاهات المستقبلية بقوة، وبقوة أكبر أوضحت أن الاستعداد العالمي للمستقبل، حتى لدى الأمم صاحبة المخيلة والإرادة والعلوم، أضعف كثيراً مما يجب.

لقد اكتشفت دول العالم والاقتصادات أن هناك نماذج كثيرة في الإدارة والعمل والتعليم والصحة وإدارة الخدمات والقيام بالمسؤوليات، لم تعد هي الأنسب، ولا الأكثر إفادة من التطور الذي حققته البشرية خلال ما يقل عن ربع قرن. ومن الواضح أن هذه النماذج من الإدارة والعمل والتعليم والصحة وإدارة الخدمات والقيام بالمسؤوليات لن تعود صالحة في ظرف سنوات قليلة لا تتجاوز العقد.

لقد داهمت «كورونا» العالم، ولكنها أسدت إليه خدمة وعي كبيرة!

السؤال والجواب

يتميز الاستثمار في المستقبل أنه غير إرادي في حال غاب الوعي به. بمعنى أن، حتى، من لا يريد الاستثمار به، يستثمر به دون أن يدري. ولكن هذه الشريحة لا تستوي مع من يستثمر بسابق وعي ومعرفة وقرار في المستقبل.

لذا، السؤال الأهم، هو:

المستقبل.. أين هو؟

والجواب الواضح، هو:

إنه بين أيدينا، لكننا غارقون في أمانينا، وتخيلاتنا القديمة!

ويمكننا أن نتذكر..

تعلمنا في تسعينيات القرن الماضي أن الفكرة المفردة تبني مجالاً جديداً في العلوم، وتخلق قطاعاً اقتصادياً لم يكن منظوراً أبداً، وتجري تحولات غير ممكنة في المجتمعات والاتصال الإنساني، وتغير المنظومة الإخلاقية دون سابق إنذار.

ومن الواضح أن الفكرة الأهم، هي: المستقبل!

Email