اقتناء الفنون.. من الرفاهية إلى الضرورة

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

للفنون دور محوري ومهم في تحسين الحالة النفسية للفرد، إذ تساعد على تخليصه من الطاقات السلبية والاضطرابات النفسية كالتوتر والقلق والغضب، وتسهم في راحته وتحسين مزاجيته، هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن امتلاك قطع فنية وعرضها في المرافق يمثل علامة على مستوى معين من الرفاهية والقيمة وجودة الخدمة بالنسبة لبعض المؤسسات.

هذا هو الحال بالنسبة لجهات مثل الفنادق والمستشفيات والمؤسسات الحكومية، الذين يمثلون «مقتنيين كباراً» وعارضين موثوقين للفنون، يوظفون الفن في العلاقة مع من يلجؤون إلى خدماتهم.

هذا كله، أسس إلى علاقة تبادلية بين مجتمع الأعمال والخدمات، بشقيها العام والخاص، من جهة، والمجتمع الإبداعي والفني، من جهة أخرى، ومثل هذه العلاقة التبادلية باتت اليوم واحداً من معايير الحياة العصرية، وجزءاً من مسارات المسؤولية الاجتماعية، التي يضطلع بها قطاع العمال والخدمات.

وفي عالمنا المعاصر، الذي يتعاظم فيه دور «الاقتصاد الثقافي» و«الصناعات الإبداعية»، بشكل عام، تصبح قوة مثل هذه العلاقة مؤشراً صحياً، يؤكد سلامة تناغم القطاعات الاقتصادية بعضها مع بعض، وتكاملها في سياق حميد من التفاعل و«الخدمات المتبادلة».

ومن هذا المنظور، فإن مستوى هذا التفاعل بين قطاع الأعمال والخدمات والمجتمع الإبداعي، في الإمارات عموماً، وفي دبي على وجه الخصوص، يمكنه أن يكشف عن مستوى وطبيعة التكيف مع التوجهات الاقتصادية الجديدة، التي تبنتها الحكومة الرشيدة، فما هي حيثيات هذا التفاعل؟

إسهام في نشر الثقافة

لا يختلف ممثلو القطاعات ذات العلاقة في تأكيد أهمية مثل هذا التفاعل، بل إن هناك إجماعاً على أهميته، وأهمية الفنون الروحية بوصفها قيمة مضافة إلى أي خدمة، وكذلك باعتبار إسهامها في التنمية بشكل عام، غير أنه تبرز في هذا السياق مفاصل متعددة، ومسارات مختلفة في ممارسة هذا التفاعل.

وفي هذا السياق، يؤكد الفنان الإماراتي مطر بن لاحج، الأهمية الخاصة لدور الفن وأهمية حضوره في المرافق العامة، لا سيما الكبرى منها، التي تستقبل على نحو يومي أعداداً كبيرة من طالبي خدماتها، ويقول: «الفن له دور كبير في إيجاد أفق جديد للثقافة البصرية، وللثقافة البصرية دور كبير وفعال في إثراء الثقافة الإنسانية، سواء أكان ذلك في المستشفيات أو الفنادق أو في أي مكان آخر».

متحف المستقبل

ويتوقف بن لاحج، الذي يملك تجربة فريدة في إثراء المرافق العامة بالبعد الفني، من خلال تصميمه لتشكيلات خط الثلث، التي زينت هيكل «متحف المستقبل» الخارجي، بكلمات لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، عند الأثر النفسي والعلاجي للفن، فيقول: كما نعرف أن المشفى مكان للمرضى ومن يعانون الألم، واللوحات الفنية تبعث نوعاً من الأريحية للمريض وبصره، لأنه يرى الجمال والراحة اللذين تعكسهما تلك اللوحات، خصوصاً إن كان العمل الفني ينبض بالألوان والحياة.

وإذا كان الخيال هو نبع الذكاء، فإن بن لاحج يلاحظ أن للفنان دوراً كبيراً في إثارة خيال الإنسان الذي يتمعن لوحته المعلقة على الجدران، أو عمله الفني المعروض، ويأخذه إلى عالم آخر مليء بالخيال.

في الواقع، فإن تجربة بن لاحج مع «متحف المستقبل»، تنقل أهمية الفنون إلى مستوى آخر، فهذه التجربة التي تتضافر مع فنون الهندسة المعمارية تؤشر على أهمية الفن في الحياة العملية، وتكشف عن طبيعته التي يمكن أن تتجاوز مجرد إنتاج قطع فنية للعرض إلى الإسهام في تقديم حلول جمالية، ليست متاحة لفنون وعلوم أخرى، ومن جانب آخر، تجسد هذه التجربة نموذج الفن العملاق، الذي يأخذ مكانه للعرض في مشهد المدينة العام.

في الغالب، تختلف الحاجات الفنية بين مرفق وآخر، فما يحتاجه البنك يختلف عما يحتاجه الفندق، وكذلك الأمر بالنسبة للمستشفيات والمؤسسات الحكومية، حيث تحدد طبيعة كل مرفق حاجاته وتفضيلاته الفنية. ويقول بن لاحج في هذا الصدد: «ليست كل الأساليب الفنية مناسبة، فإذا ما أخذنا المستشفيات على سبيل المثال، فإن هناك دوماً تأكيداً على تفضيل الألوان المشرقة خلال انتقاء الأعمال الفنية، وميلاً إلى اللوحات التي تنبض بالطاقة الإيجابية، ما يبعث الطمأنينة في نفوس المرضى وينعكس إيجاباً على حالتهم الصحية».

في الوقت نفسه، تبدو الفنادق أكثر حرية وتقبلاً لأنواع مختلفة من الأساليب، شرط أن «تشعر زبائن الفنادق بالراحة والأنس والجمال، حيث ثبت أن الفن يقلل من التوتر ويشعر الشخص بالارتياح، وهو بالضبط ما يحتاجه زبائن الفنادق أكثر من أي شيء آخر أثناء فترة إقامتهم، كما أن الجمع بين الفنون وعوالم الضيافة هو تعبير راقٍ عن توّفر أرقى مستويات الخدمة».

وفي هذا السياق، يلاحظ بن لاحج أن «قوة الفن وسحره يظهران في الفنادق، التي تحولت إلى واحات فنية ذات قيمة إبداعية عالية، في جو يمزج بين الفنون وطيب الإقامة في مكان واحد».

دور كبير

إقبال المرافق العامة، من فنادق ومستشفيات وغيرهما، على اقتناء أعمال فنية هو موضع تساؤل أيضاً. وهنا، يقول بن لاحج: الفنادق مهتمة كثيراً، ولديها قائمة أوسع من الحاجات، وهي لا تقتني اللوحات فقط، بل والمنحوتات والمجسمات.

الوعي بأهمية الفن، ليس حكراً على الفنانين، فقطاع الأعمال، كما يرى بن لاحج، يدرك متطلبات عمله، ولذلك يلجأ في غالب الأحيان إلى التعاقد مع الفنانين لشراء بعض أعمالهم، أو تكليفهم بأعمال بطلب خاص.

ويقول بن لاحج: «تتنافس الفنادق المشهورة الكبيرة على اقتناء اللوحات الفنية القيمة للفنانين، وقد اقتنى مني فندق جميرا النسيم في دبي 4 أعمال فنية تضيء فكرة الجنوح إلى المستقبل المشرق، وتم وضع أحدها في مدخل الفندق، وهو عمل مصنوع من فولاذ لامع غير قابل للصدأ، يصور قافلة جمال تعدو على المياه، كما اقتنى فندق المندرين كذلك عملاً فنياً لي، وهناك لي غير هذه الأعمال الكثير في العديد من الفنادق».

500 لوحة

لا تبدو الصورة مختلفة من جانب «المقتنين الكبار»، فالاهتمام بالفن وحضوره يبدو أساسياً، إذ تحرص الفنادق ألا يغيب الفن عن أي من مرافقها. هذا ما يؤكده وليد العوا، مدير «فندق تماني مارينا»، المطل على جزيرة نخلة جميرا، الذي يقول: «يهتم مسؤولو الفنادق في دبي باقتناء اللوحات الفنية»، ويلفت إلى أن هناك حرصاً على اختيار لوحات فنية قادرة على استثارة انفعالات جمالية في نفوس رواد الفنادق، فهذا يلائم توجه الفنادق إلى ترويج نمط حياة راقٍ، ولا يمكن الحديث عن رقي في نمط الحياة دون الحديث عن الفن.

يلفت العوا إلى أن الفنادق تقتني اللوحات الفنية، باعتبارها من أبرز المقتنيات التي يمكن أن تعبر عن روعة المكان، أو تعكس هويته وشخصيته، ويقول: «أغلب اللوحات في فندق «تماني مارينا» تحاكي الثقافة العربية والإسلامية إضافة إلى مقتنيات ذات طابع حرفي، مع استثناءات بالطبع، فهذه هي الثيمة الرئيسية في الفندق».

وعن حجم حضور الفن في أروقة الفندق، يؤكد العوا أن «جدران الفندق تتزين بنحو 500 لوحة فنية تنشر عوالم الجمال في مختلف الأجنحة، الموزعة على 55 طابقاً».

أما بالنسبة لنوعية هذه اللوحات، وطبيعة توزيعها، فيقول العوا، إن ما يضمه الفندق من لوحات يتراوح بين اللوحات الأصلية والتجارية. وتتوزع اللوحات الأصلية على مداخل الفندق وفي بهو الاستقبال وفي القاعات، بينما تتوزع بقية اللوحات على الغرف، حيث تضم كل غرفة من 3 إلى 4 لوحات».

وحول مصادر هذه اللوحات، والوسائل التي يلجأ إليها الفندق للحصول عليها، يقول العوا: «جميع لوحات الفندق تم انتقاؤها من المعارض الفنية التي أقيمت في الإمارات عامة، وفي دبي على وجه الخصوص، وهي تجذب انتباه الزوار بموضوعاتها المتنوعة وألوانها المفعمة بالحياة».

الجائحة تحفز المقتنين

على المستوى العالمي تبدو الأمور أكثر وضوحاً، فحركة المقتنين الكبار يمكن قياسها بميزان سوق الفن عموماً. وهنا تحدد دراسة شاملة أجرتها «آرتس إكونوميكس» بعنوان «سوق الفن 2017»، قيمة مبيعات الأعمال الفنية والآثار والتحف اليدوية النادرة بـ56.6 مليار دولار في 2016.

ورغم أن هذا الرقم يبدو مذهلاً للوهلة الأولى، إلا أن الدراسة نفسها تكشف أن هذا الرقم أقل بنسبة 11 % مما كان عليه في عام 2015، وبنسبة 17 % عما كان عليه في عام 2014 حين وصلت قيمة السوق إلى 68.2 مليار دولار.

ومن جهته، كشف موقع «آرت ماركت»، الذي يصدر «تقرير سوق الفن العالمي Artprice 2021» عن نمو مذهل في حجم المبيعات ويؤشر على تحول نموذجي يتمثل بوصول الرموز غير القابلة للاستبدال إلى السوق والتداول.

ويكشف هذا التقرير، كذلك، عن أن أداء سوق الفن العالمي في عام 2021 كان غير مسبوق، بحيث وضع الجائحة وراء ظهره بقوة، إذ أظهرت بيانات السوق زيادة مذهلة بنسبة 60 % في مبيعات المزادات في عام 2021 مقابل 2020، على الرغم من استمرار الجائحة.

ويلاحظ التقرير، في السياق، إن المبيعات المباشرة عبر الإنترنت من قبل دور المزاد زادت بنسبة 720 % في جميع أنحاء العالم على مدار عامين من انتشار الجائحة. وهو مستوى النمو الذي كان متوقعاً الوصول إليه في الفترة من 2025 إلى 2027.

وفي المحصلة، فإن الأرقام تظهر أن حركة المقتنين الكبار نشطة، سواء في السوق التقليدي وسبل التداول الشخصية أم المزادات.

Email