في مدرسة عبد الله العظم الأثرية، التي يرجع تاريخها إلى أكثر من 250 عاماً، يجلس معروف الخوري في المحلات المستأجرة من المدرسة لبيع الشرقيات يومياً لساعات، وهو ينظر إلى أثواب البروكار الموجودة على رفوف المحلات التي لم ينقص منها أي شيء منذ سنوات.
الخوري، الذي كان مديراً في محلات النعسان الشهيرة لصناعة وبيع الشرقيات في خمسينيات القرن الماضي، والذي عاصر فترة ازدهار صناعة البروكار العريقة، التي تختص فيها دمشق وحدها في العالم، يشهد حالياً على اندثار هذه الصناعة، فيما لو بقيت الظروف على حالها.
يقول الخوري لـ «لبيان»، إن «البروكار هو من أفخم أنواع الأقمشة في العالم، وهو صناعة يدوية عرفت في دمشق، ويشكل الحرير الطبيعي المادة الأساسية فيها، ويمكن إدخال خيوط الذهب والفضة بها، وذلك باستخدام النول». وأضاف الخوري أن «هناك بروكار طبيعي وبروكار نباتي، وهو المصنوع من الحرير الصناعي»، لافتاً إلى أن «هناك فرقاً كبيراً بين المادتين من حيث القيمة والجودة».
وتابع الخوري أن «اليد العاملة الأساسية التي عملت في صناعة البروكار، هم أكراد دمشق، حيث كانوا يعملون على الأنوال»، لافتاً إلى أن «هذه الصناعة دقيقة ومجهدة، وأن ما ينتجه العامل الذي يعمل 8 ساعات، يعادل متراً ونصف المتر من مادة البروكار».
اشهر الأقمشة
وعن الفرق بين البروكار والأقمشة الأخرى الفاخرة التي تنتجها دمشق، قال الخوري إن «من أشهر الأقمشة الدمشقية، هو الدامسكو، حيث تنتجه معامل آلية، والمادة الأساسية فيه هو القطن، وليس الحرير، وهو يتعلق بالمفارش والأثاث، فيما المقصب هو أي نوع قماش تدخل فيه مادة القصب، ولا يمكن اعتبارهما بروكار».
وهناك أنواع من البروكار، منها الخفيف وزناً يستخدم للأزياء، لا سيما للعرائس وملابس السهرة، والوسط يستخدم لصناعة السترات، أما الثقيل منه، فيستخدم للمفروشات.
وعن مراحل صناعة البروكار، قال الخوري إن «هناك عدة مراحل لصناعة البروكار، حيث كان يأتي بالحرير من دريكيش في ريف اللاذقية، أو باستخدام الحرير الطبيعي المستورد من الصين، الذي يتميز بجودة عالية».
وأول خطوات صناعة البروكار، هو إرسال شلل الحرير إلى شخص يدعى الفتال، والذي يقوم بكر الشلل خيوطاً على بكرات خشبية، ثم تؤخذ هذه البكرات، لما يسمى عملية الزوي، وهي عملية تجميع الخيوط من بكرتين أو أكثر على بكرة واحدة، ومن هنا، يصبح الخيط ثنائياً أو ثلاثياً أو رباعياً، ومن ثم تبرم تلك الخيوط على آلة الفتل، لتصبح بمثابة خيط حرير واحد ومتين.
والخطوة الثانية، هي ما يعرف باسم المسدّي، وهو الشخص المسؤول عن تحضير السدى أي الخيوط الطولانية للقماش (الخلفية)، ثم تليها مرحلة الصباغ، التي تتضمن القصارة، وهي عملية معالجة الحرير الخام، من خلال وضعه في الماء المغلي والصابون والكربونات، حيث تصبح مادة الحرير بيضاء ناصعة، تليها عملية الصباغ، وهي عملية يدوية، وفقاً لألوان محددة.
والخطوة الرابعة في تصنيع الحرير، تسمى المزيك، وهو الشخص الذي يأخذ شقة الحرير الطبيعي التي ستصبح خيوطاً للسدى من الصباغ، ويقوم بتغطيسها بالنشاء المحلول في الماء، والمضاف إليه الصمغ المأخوذ من أشجار اللوزيات، وفي دمشق، يضيفون سكر نبات والغراء للحرير الطبيعي، حيث تستمر عملية التغطيس حوالي 5 دقائق فقط في هذه المواد، ثم تعصر شقة الحرير.
وبعد ذلك يقوم المزيك بلف الشقة على الملف الخشبي، على شكل كرة متطاولة، ومن ثم يقوم بنشرها على عوارض خشبية، وذلك لإجراء عملية تعرف بـ «البز»، وهي إبعاد الخيوط بعضها عن بعض بأصابعه، كيلا تلتصق ببعضها، نتيجة عملية التغطيس.
تقوية الخيوط
وتفيد عملية التغطيس في تقوية خيوط السدى وتمتينها، حيث إنها تتحمل ضربات المشط عليها عند تركيبها على النول، أما خيوط الحدف أو اللحمة، فلا تحتاج للتخشين، لأنها محمية في المكوك.
بعد ذلك تأتي العملية الأخيرة من معالجة الحرير، من خلال شخص يسمى الملقي، الذي يهيئه بدوره للحائك، فيقوم بتشبيك خيوط السدى مع النير، تمهيداً لعملية الحياكة، ثم يأتي دور الحايك، الذي يحول الخيوط إلى نسيج سدي في الطول، ولحمة في العرض، وفق الهيئة التي يريدها.
وقال الخوري إن كل 6 إلى 8 شلل من الحرير، تنتج ثوباً من البروكار بطول 20 إلى 25 متراً.
وهناك العديد من الرسومات المستخدمة في البروكار، في غالبيتها مستوحاة من الحياة اليومية الدمشقية، ومن الزخارف الإسلامية، ثم من التاريخ العربي والإسلامي والأوروبي، مثل الأشكال الهندسية الموجودة في الجامع الأموي، ومعركة صلاح الدين الأيوبي، وسفينة نوح، ورسم طيري العاشق والمعشوق وغيرها.
وقماش البروكار، قد يكون مؤلفاً من لونين أو 3 أو 4 أو 5 أو 7 ألوان، وإن عدد الألوان يرتبط بعد المكوكات، حيث إن إنتاج قطعة من البروكار بسبعة ألوان، يحتاج إلى 7 مكوك.
مشاهير
شهرة البروكار وفخامته، كانت سبباً لأن يطلبه الحكام والملوك والمشاهير، ومن هؤلاء كانت ملكة بريطانيا إليزابيث، عندما طلبت قماش البروكار لصنع ثوب زفافها في عام 1947، في عهد الرئيس شكري القوتلي.
ويقول الخوري إن ثوب زفاف الملكة إليزابيث، تم صنعه في معمل النعسان في باب شرقي بدمشق، وإن من قام بصنعه السوري درويش رمضان.
كما أن العديد من المشاهير والحكام، اقتنوا البروكار، منهم باباوات في الفاتيكان، كيوحنا بولس وبنديكت، كما علقت جدارية كبيرة مساحتها 112 متراً مربعاً من البروكار، على جدران قصر الملك الراحل فهد بن عبد العزيز بالرياض. وأشار الخوري إلى أن العديد من الوفود الأجنبية والشخصيات المهمة، كانت تبدي اهتمامها وإعجابها بصناعة البروكار، وكانت آخر زيارة لمحلاته، من قبل ملك إسبانيا السابق، خوان كارلوس، على هامش زيارة له إلى سوريا، حيث اطلع على البروكار وصناعته، وأعجب كثيراً بهذه المادة.
الخوري الذي شهد على مر 65 عاماً، خلال عمله في صناعة وتجارة البروكار، ازدهار هذه الصناعة الدمشقية الخالصة، يبدي تخوفاً كبيراً من اندثارها بفعل الحرب. وكانت محلات النعسان في الخمسينيات، تحتوي على 50 نولاً لصنع البروكار،.
وكان هناك ازدهار كبير في هذه الصناعة، أما الآن، فإنه لم يعد هناك أي ورشة أو نول يصنع هذه المادة بعد اندلاع الأزمة. وأضاف الخوري أن بيع البروكار، يعتمد بشكل أساسي على السياح، وأنه بعد اندلاع الأزمة، وعدم قدوم هؤلاء، لم ينقص البروكار الموجود في محلاته»، لافتاً إلى هذه المادة كمالية بالنسبة للسوريين.