«أدب الحكمة».. رسائل تحفيزية وكنوز معرفية

يعتبر »أدب الحكمة« من الآداب القديمة التي عرفها العرب وعبّروا عنها قديماً في الأشعار والوصايا والخطب، إلى أن تطور ذلك النمط من الأدب على نحوٍ ظهر خلاله في الأعمال السردية؛ سواء في القصص (القصيرة والطويلة) أو الروايات والمسرحيات.

وما بين القديم والحديث ظهرت العديد من المُتغيّرات على شكل ومضمون ذلك اللون الأدبي الهادف، الذي وجد طريقه للانتشار بشكل واسع ويحظى بشعبية في الكثير من الأوساط الثقافية، لاسيما الأوساط الشبابية الباحثة عن طريق النجاح والسعادة.

نماذج مباشرة

طابع »الحكمة« الذي تتناوله الأعمال الأدبية الحديثة حالياً يعتبر نمطاً متطوراً لذلك اللون الأدبي الذي كان منتشراً قديماً، خاصة في الشرق الأدنى القديم، واشتهر به الكثير من الشعراء الذين قدّموا آنذاك نماذج مباشرة في أدب الحكمة والوصايا؛ بقصد التربية والتعليم والنصح والإرشاد، عبر مبادئ أخلاقية عامة، لاسيما عبر القصص والأساطير القديمة المتداولة جيلًا بعد جيل؛ مثل المتنبي.

»الناس يعتقدون بأنهم يعرفون بالضبط كيف ينبغي لهم أن تكون حياتهم، ولكن لا أحد يعرف إطلاقًا كيف ينبغي له أن يعيش حياته«.

.ربما ذلك التعبير الذي تحدث عنه الروائي البرازيلي باولو كويلو في روايته »الخيميائي« هو ما ترنو إليه هذه الأعمال التي تندرج تحت لون »أدب الحكمة«، بحيث تُجيب - بصورة غير مباشرة في الغالب - عن »كيف ينبغي للناس أن يعيشوا حياتهم ويحققوا أحلامهم؟« في إطار من الحكمة يقدمه الكاتب.

مقارنة

يعقد الأديب والناقد الأدبي المصري د. يوسف نوفل مقارنة حول »أدب الحكمة« بين القديم والحديث، موضحًا لـ»البيان« أن الحكمة في الأدب القديم كانت مباشرة وخالصة وواضحة، أما في الآداب الحديثة صارت مقنعة ورامزة وغير مباشرة، ولكنها - وهذا هو الأهم وفق رأيه - أكثر بلاغة من الحكم المباشرة القديمة.

ويرصد نوفل تطور »أدب الحكمة« ما بين القديم والحديث قائلًا: »عرفتْ الآداب القديمة -ومنها الأدب العربي- الحكم والأمثال، وتجلى ذلك بوضوح في الأشعار العربية القديمة، واشتهر في هذا المجال زهير بن أبي سلمى وغيره، كما اشتهر في هذا المجال فن الخطابة العربية واليونانية في الآداب الإغريقية القديمة وكذلك لدى الفراعنة أيضًا. والحكمة -آنذاك- كان يقدمها الكاتب عبر فكرة مستقاة من تجارب الحياة وبصورة مباشرة«.

الأدب الهادف

أما في الآداب الحديثة فتطور الأمر وارتبط بما يعرف في الدراسات الأدبية بـ»الأدب الهادف«، الذي يهدف إلى غاية سامية كبيرة يحاول الأديب أن يتجه بها إلى جمهوره بطريقة غير مباشرة، بالرمز والإيحاء؛ لأن الفن الأدبي يرفض الأدب الصريح، فهذه المصارحة والوضوح يليقان أكثر بالخطبة، وفق نوفل، الذي يحدد لـ»البيان« ثلاثة أشكال يظهر فيها أدب الحكمة في الآداب الحديثة: أولها في »الحكم المباشرة«؛ من خلال بيت أو أبيات من الشعر، مثل قول أمير الشعراء أحمد شوقي:

إنِّما الأُمَمُ الأخلاقُ ما بَقِيَتْ

فَإنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخلاقُهُمْ ذَهَبُوا

وثاني هذه الأشكال التي تظهر فيها الحكمة في الآداب الحديثة »الحكمة المستنتجة« من موقف أو حدث أو أي عبارة في فن السرد، سواء كان قصة قصيرة أو طويل أو رواية أو مسرحية.

أما ثالث هذه النماذج فيظهر الحكمة في فن »الإيبجراما«، وهو نص شعري مكثف ومركز وموجز يقدم فيه الشاعر فكرة ثم يفاجئ بتغيير المعنى إلى عكس المتوقع؛ ليقدم في النهاية خلاصة تجربة حياة تكون هي الحكمة المستوحاة من النص.

القصيدة التراثية

ويقول أستاذ الأدب المقارن الناقد د. شريف الجيّار إن أدب الحكمة يمثل ملمحًا بارزًا في القصيدة التراثية التي تعود إلى عصور أدبية مختلفة، لاسيما في القصيدة الجاهلية، ووصولًا إلى قصائد العصر العباسي نجد أن هذا الغرض بالتحديد موجود كشقٍ وملمح أدبي بارز داخل القصيدة، لاسيما في شعر المتنبي في العصر العباسي..

وأيضًا نجد هذا الغرض موجود بشكل أو بآخر في البنى النثرية المختلفة، وعادة كان يمتزج بالوصايا والخطب، خاصة في أدب العصر الإسلامي الذي تخلص أو تجرد من موضوعات كانت موجودة في العصر الجاهلي، لاسيما الغزل بشكله الصريح.

مفهوم الحكمة

ولا يمكن أن يأتي مفهوم الحكمة بدلالاته التراثية القديمة في القصيدة الحديثة أو حتى في الأدب في عصرنا الحالي؛ نظرًا لتغير الواقع الحضاري وأبعاده المختلفة ووجود الثورة المعلوماتية والتواصل السريع عبر الشبكة العنكبوتية »الإنترنت«..

ولكن من الممكن أن نجد أشكالًا غير مباشرة لدلالة الحكمة إذا عبّر شاعر عن خبراته أو عن قضية عامة يريد أن يرسل من خلالها خبراته ورؤاه إلى الأجيال التالية، وهنا نلحظ أن مناقشة القضايا المطروحة داخل الإبداع عادة ما تحمل الدلالة غير المباشرة لمفهوم الحكمة، خاصة إذا كان هذا الإبداع موجهًا إلى فئة الشباب أو فئات يريد المبدع أو الشاعر خاصة أن يعطي رسالة مكثفة الهدف منها هو تصحيح المسار للواقع أو الحالة الإنسانية بشكل عام، وفق الجيّار.

حضور كبير

ويقول أستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة د. حسين حمودة إن »أدب الحكمة كان له حضور كبير جداً في التراث الأدبي القديم، وفي كل الثقافات وعبر أغلب الأنواع الأدبية نجده واضحًا في الشعر العربي، حيث مثلت أبيات الحكمة جزءًا من قصائد كثيرة عند شعراء مثل المتبني وأبي العتاهية.

كذلك نجد للحكمة حضوراً كبيراً في بعض كتابات المتصوفة، وفيما يسمى »الأمثولة« على ألسنة الحـــــيوانات، وهذه الظاهرة واضحة في أعمال مثل »خرافات إيسوب اليوناني« وبعض حكايات »الأسفار الخمسة«، وكليلة ودمنة، وبعض الأجزاء الشعرية على ألسنة الكورس أو »الجوقة« في بعض المسرحيات الإغريقية، وفي فترات لاحقة نجد الحكمة في خرافات جان دي لافونتين الفرنسي، وما يماثلها في شعر أحمد شوقي..إلى آخره«.

مساحات للخيال

وتراجع حضور الحكمة في الآداب الحديثة بشكل لافت، بحيث تخلى المبدع عن »الحكم المباشرة« وترك المساحة لخيال القارئ ليستنبط الحكمة من الوقائع والتفاصيل بمتن عمله الإبداعي؛ لتأتي الحكمة في السياق وبصورة غير مباشرة، وتصبح مسؤولية مشتركة ما بين مُبدع يكتب وقارئ يعمل عقلة ويستنبط الحكمة. وفي هذا الإطار، يشير حمودة إلى أنه »في العصر الحديث تراجع أدب الحكمة إلى حد بعيد، وربما كان هذا مرتباً بفكرة أنه لم يعد هناك أحد - لا المبدع ولا غيره - يمتلك الحقيقة الكاملة ولا الحكمة النهائية.

أصبحت الحقيقة نسبية، وأصبح حضور الحكمة في الأدب غير مباشر وأكثر توارياً وراء الأحداث والوقائع والشخصيات والعواطف والتجارب وما إلى ذلك؛ بحيث إنها لم تعد تقال بشكل مباشر وإنما يمكن استخلاصها عبر - أو بعد - تلقي الأدب بكل عناصره وتفاصيله، وبذلك فإن الحكمة بهذا المعنى في الأدب الحديث أصبحت نتاجاً مشتركاً يسهم فيه مبدع العمل الأدبي، كما يسهم فيه متلقي هذا العمل أيضًا«.

الحكمة في الشعر

ويرى الشاعر المصري أشرف قاسم أن »الشعر العربي الآن لم يعد يهتم بالحكمة في ظل تنامي تيار قصيدة النثر، وفي ظل استسهال الكتابة، أو ما يطلقون عليه شعرًا عبر مواقع التواصل«، مرجعًا ذلك في الأساس إلى ما وصفه بـ»سوء المناخ الثقافي بشكل عام«. ووفقًا لقاسم، فإن غرض الحكمة »ربما يكون موجودًا في السرد -سواء القصص القصيرة أو الطويلة والرواية والمسرحية..

- لكن بشكل مطور وموظف فنيًا بعيدًا عن الخطابة والمباشرة الفجة«. مشددًا في السياق ذاته على كون قصيدة النثر المنتشرة تهتم بالأساس بالفلسفة والحكمة، ولكن في إطار الحداثة الغربية. ويحرص الكثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي -لاسيما من الشباب- على تداول اقتباسات زاخرة بالحكمة والأمثال، منتقاة من الأعمال الأدبية المختلفة، سواء القديمة أو الحديثة.

«خيميائي» باولو كويلو..الحكمة في السرد نموذجاً

»إنك عندما تريد شيئًا بإخلاص، فإن الكون كله يتآمر من أجلك«. عبارة شكلت محورًا جوهريًا في كثيرٍ من الأعمال الأدبية التي قدّمها الأديب البرازيلي ذائع الصيت باولو كويلو الذي يعتبره كثيرٌ من النقاد واحدًا من مقدمي الحكمة عبر السرد.

وكانت هذه العبارة الموضوع الرئيسي لروايته »الخيميائي« في ترجمة أخرى، وهي الرواية التي تمت ترجمتها إلى 80 لغة ووصلت مبيعاتها إلى 150 مليون نسخة في جميع أنحاء العالم.

وتحفل »الخيميائي« بعددٍ كبير رسائل »الحكمة« ومن المعاني والعبارات التحفيزية التي تتحدث عن »الأسطورة الذاتية« والمضي نحو تحقيقها في ضوء العديد من المعايير التي تشكلت على هامش ذلك العمل الأدبي الذي تحظى الكثير من عباراته التحفيزية على انتشار واسع ويستلهمها عددٌ من الفنانين وصناع السينما لتكون محوراً رئيسياً في بعض الأعمال الفنية.

الوصايا..تحفة الآداب العربية القديمة

ازدهر أدب الحكمة فيما يعرف بـ»الوصايا« التي كانت تحفل بها الآداب العربية القديمة، والتي تقدم معاني وعبارات تحفيزية ونماذج إيجابية وناجحة ودروسًا في الحياة والحب والسعادة والصداقة والعمل، وهي أشبه بكتب ومحاضرات التنمية البشرية -التي يستخدمها الكثيرون كبوصلة للنجاح وتحقيق الذات.

- لكن في صورة أدبية تتشكل فيها خلاصة تجربة حياة البطل - كاتب الوصية - وعصارة ما خلص به من الدنيا من خبرة عقب سلسلة من المتغيّرات الداخلية والخارجية التي تشهدها حياته، وكانت هذه تلك النوعية من الأعمال الإبداعية بشعبية واسعة.

قصص الحيوان

يعتبر النقاد »قصص الحيوان« التي اشتهر بها الأدب العربي قديماً لوناً من ألوان أدب الحكمة، حيث تم تداوله في الحضارة اليونانية وغيرها من الحضارات الأخرى. ومن أبرز ما قُدم في هذا الإطار كتاب »كليلة ودمنة« الذي نقله في العصر العباسي عبدالله بن المقفع. وتطور فن قصص الحيوان في الآداب الحديثة وقدّم أحمد شوقي مجموعة من القصص على لسان الحيوانات.

وهي قصص رامزة ناطقة بالحكمة؛ من بينها قصة تحدث فيها عن ثعلب تماكر حتى احتل، وكان يقصد بذلك الاستعمار الإنجليزي. وتقدم هذه النوعية من القصص الحكم على لسان الحيوانات، وترمز إلى عددٍ من الحكم والمبادئ المستوحاة من تجارب إنسانية عديدة. ويعتبر الفرنسي جون دي لافونتين رائدًا في إدخال هذا النمط الأدبي إلى الآداب الحديثة وإعطائه أبعادًا درامية.

رسائل

من بين ألوان الحكمة في الأجناس الأدبية - وفق ما يؤكده نقاد - ما يُقدم في »الرسائل«، وهو لون أدبي، أبرز من قدّمه في المشهد الثقافي المصري الحديث الكاتب عبدالوهاب مطاوع (توفي عام 2004)، الذي قدم أعمالًا غلب عليها طابع الحكمة والأقوال المأثورة.

فقد كان يتلقى رسائل القرّاء ومشكلاتهم عبر بريد صحيفة الأهرام المصرية العريقة ويقوم بالرد عليها في إطار أدبي يجمع بين المنطق والعقلانية بأسلوب سلسل يشكل تحفيزًا للقارئ ويقدم أسلوباً بديعاً في حل المشكلات الحياتية اليومية كبوصلة للنجاح. وعبر هذه الرسائل والردود عليها، وفي إطار أدبي، قُدِّمت الكثير من الحكم والمواعظ التي تعد عصارة تجارب حياتية عديدة في إطار يقترب من المباشرة والوضوح في طرح الحكمة.

العديد من الشعراء قدّموا نماذج مباشرة في أدب الحكمة والوصايا بقصد التربية والتعليم والنصح والإرشاد

الآداب القديمة ومنها الأدب العربي عرفتْ الحكم والأمثال وتجلى ذلك في الأشعار العربية القديمة

الأكثر مشاركة