حكاية من عمق القرون ترويها صناديق قديمة مخضرة

«عابرو الكتب» على ضفاف السين وجه مغاير للثقافة في عاصمة الأنوار

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

صناديق حديدية مخضرة، احمر بعضها من كثرة الصدأ الذي أكل بعض أجزائها.. تراها مصنفة الواحدة، تلو الأخرى، على ضفتي نهر السين، تحمل بداخلها كتبا قديمة.

وأخرى جديدة، يتناغم فيها عظماء الأدب، كفيكتور هيغو وشكسبير، مع رسامي الكاريكاتير الشباب، الذين تملا كتبهم الساحة الفرنسية .. وبين تلك وذاك، تشاهد مجسمات صغيرة لبرج إيفل، وصورا فوتوغرافية لحسناوات فرنسيات، صارت تزاحم الكتب القديمة بالصناديق الصغيرة.. إنها باختصار، حكاية شائقة عنوانها، صناديق الكتب القديمة على ضفاف نهر السين.

"ليباسور دي ليفر" او "عابرو الكتب".. ذاك هو لقب بائعي تلك الصناديق، الذين ورثوا حرفة تعود إلى القرن السادس عشر، حيث كان الحكم ملكيا في فرنسا، ليصيروا، حاليا، صورة من بانورامية مشاهد باريس، ومن ثم ليحكوا توليفة قصة أخرى لعاصمة الأنوار، غير تلك التي تطبعها اليوم.

يبلغ عدد بائعي الكتب القديمة، على ضفاف السين، نحو 240 بائعا، يقدمون على مدار أيام الأسبوع، وعلى طول ثلاثة كيلومترات، نحو 300 ألف كتاب، موزعة على 900 صندوق حديدي. وتجدهم بحضورهم ذاك، وفي الاجواء التي يشيعونها في المكان، يحوكون معالم مشهد وأجواء ثقافية مميزة تغرف من أعماق عالم الكتب، لتقدم تحفا أدبية نادرة، يجيئها الهواة وجامعو الكتب، من بلدان بعيدة.

تاريخ وحكاية

تعود ظاهرة بيع الكتب القديمة في هذا المكان، إلى القرن السادس عشر، حيث كان يفد باعة الكتب المتجولين، من جميع أنحاء فرنسا، ليعرضوا ويقرؤوا ويبيعوا كتبهم، على أرصفة ضفتي نهر السين، ذلك بعد ثورة الطباعة التي عرفتها فرنسا، آنذاك. وهذا أمام عدم رضا السلطات، التي كثيرا ما كانت تطردهم وتتهمهم ببيع كتب ممنوعة. وكذا تسمهم بالتهرب من دفع الضرائب، وكل ذلك، فقط خوفا من نشر أفكار جديدة تحملها مؤلفاتهم، يمكن أن تنتشر في أوساط الطبقات الشعبية البسيطة.

شهرة وحال جديدة

ذاع صيت بائعي الكتب، مع مرور السنين والقرون، بعدها، في كامل فرنسا. وصار الناس يأتون إليهم، من كل مكان. وعمدت بلدية باريس إلى تخصيص أماكن ثابتة لهم، في عام 1859، لتظهر الصناديق الخضراء، كما هي الحال عليه، حاليا، منذ العام 1930.

دخل بائعو الكتب في المكان، ومع تصنيف ضفتي نهر السين عام 1991، ضمن "التراث العالمي لليونسكو"، ضمن التراث الفرنسي، ليسكنوا المطرح للأبد، ذلك في وقت تشهد فيه العاصمة باريس، عمليات ترميم وعصرنة مستمرة.

قصة عاشق للأدب.. بائع كتب

سيجارة باليد.. جريدة "لوموند" يتصفح أوراقها بصعوبة، مع برودة الطقس هذه الأيام في باريس.. وكوب قهوة يبرز بشكل لافت في يده.. ذاك هو مشهد حقيقي يعنون صورة ومنظر آلان( في الخمسين من العمر)، الذي يستقر على كرسي خشبي صغير، بينا يبيع الكتب القديمة، منذ 25 سنة، على رصيف اللوفر: "كي دو لوفر".

يشرح آلان حكايته مع بيع الكتب القديمة في المكان، وقصص ولعه بعوالم الأدب، مبينا أنه تعلق بالكتاب منذ الصغر، وهو ما جعله يترك كل ما وراءه من شؤون وقضايا ومتفرقات حياتية أخرى، لينضم ، حصراً، إلى "عائلة بائعي الكتب القديمة" على ضفاف نهر السين، والتي كان، قبلاً، يكثر من زيارتها والتردد عليها، تحديدا خلال فترة شبابه.

ويلفت آلان في سياق حديثه بهذا المجال، إلى أن عشقه الأدب الفرنسي، دفعه إلى التخصص بمؤلفاته، تحديدا، على صعيد بيع الكتب على ضفاف السين.. ويجد أنه لم يخطئ أو الخيار في الحقل. ذلك كون زبائن كثر، يفدون إليه، حصرا، لشراء هذه النوعية من الكتب، وبالدرجة الأولى من أهل العاصمة باريس، ليتبعهم في الترتيب، بعض السياح البريطانيين والأميركيين، الذين يعرفون جيدا ما يبحثون عنه، ولذلك هم يطلبوا منه مباشرة، إما اسم المؤلف أو الكتاب.

يعطي آلان لنفسه، كما يقول، ورغم تمسكه بهذه الحرفة التي صارت "تجري في دمه"، خمس سنوات أخيرة ليهجر ضفاف نهر السين. ويضيف: "حرفتنا في تراجع مستمر، بسبب التكنولوجيات الحديثة والانترنت، التي صارت هاجسنا المؤرق، الأول.. زد على ذلك، صعوبة تخرين الكتب والمحافظة عليها.. لا يكاد الواحد منا، يستطيع الاعتماد على هذا المدخول البسيط، ليؤمن معيشته اليومية.. لكنني أريد هنا الإشارة، إلى أننا لم نعد نقصر أعمالنا على الكتاب، فبتنا نوفر تذكارات وأيقونات بسيطة عن باريس، صار السياح يقصدوننا لشرائها، كي يعودوا بها إلى ديارهم، فتبقى تذكرهم بمرورهم فيها".

.." ولو بكنوز الدنيا"

لم يكن نجيب، الفرنسي من أصل مغربي، يشتغل في مجال قريب من عوالم الكتب والكتاب، سابقا، لكنه هجر، كرمى لعشقه الكتاب والثقافة، مجال عمله( سياحة الأعمال)، وقدم ليبيع الكتب على ضفاف نهر السين، وذلك ليس بعيدا عن رصيف فرانسوا ميتران، في الدائرة الباريسية الأولى.

ويقول عن تجربته: " اخترت العمل في هذا الحقل لتعلقي بالكتب والثقافة. وطالما كنت أرافق أصدقائي، قبلها، لشراء الكتب وبيعها. وعلى العموم، فأنا منذ عشر سنوات، استفيد في هذا المكان، من مساحة منحتني إياها بلدية باريس، ذات موقع مميز يحسدني الكثيرون عليه، لجمال منظر إطلالاته، من كل الاتجاهات : (نهر السين، متحف اللوفر، كاتدرائية نوتردام).

ويتحدث نجيب عن محتويات صناديق كتبه، لافتا، وبكل فخر واعتزاز، إلى أن أقدم كتاب بحوزته، نسخة من المصحف الشريف، تعود إلى القرن السادس عشر، وحدث أن رفض، قبلاً، ثروة كبيرة قدمها له سائح سعودي، لقاء تنازله عنه. ويبرر موقفه:"بما أنني أبيع وأشتري الكتب القديمة منذ سنوات، أعلم أن بعض الكتب لا تباع ولو بكنوز الدنيا كلها".

يقتني نجيب كتبه النادرة، التي تتخصص في معظمها، في التاريخ والسياسة، من الأسواق الشعبية التي تنظم في فرنسا وأوروبا :"لي بروكونت". وهي أسواق يبيع فيها الأفراد أشياءهم الخاصة: أثاث قديم، ثياب، كتب، مجوهرات.. فكل شيء في تلك الأسواق، صالح للبيع، ما دام مستعملا.

لا يفوت نجيب، فرصة حديثه في المضمار، من دون إدانته الواضحة والصريحة، لتفكير وسلوكيات شريحة غالبة وعظمى من الشباب في الوقت الحالي، مستنكرا "سخافة" شباب هذا الجيل الجديد، الذين يبيعون أشياء قيمة قديمة، قضى آباؤهم سنين كثيرة، لجمعها وتوريثها لهم. إلا أنهم لا يراعون قيمتها، فيعمدون إلى بيعها فقط لأجل بضعة يوروهات.

عراقة واجواء

 تجد بائعي الكتب في طبيعة حضورهم وتعاطيهم ضمن المكان، وبفعل الاجواء التي يشيعونها، يحوكون معالم مشهد وأجواء ثقافية مميزة، تغرف من أعماق عالم الكتب، لتقدم تحفا أدبية نادرة، يجيئها الهواة وجامعو الكتب، من بلدان بعيدة. وذاك الحال متوارث من العصر الملكي في فرنسا، تحديداً القرن السادس عشر، إذ وجدت هذه السوق، مذاك.

إجراء

 عمدت بلدية باريس إلى تخصيص أماكن ثابتة للباعة في المكان، في عام 1859، لتظهر الصناديق الخضراء، كما هي الحال عليه، حاليا، وذلك منذ العام 1930.

1991

دخل بائعو الكتب في المكان، مع تصنيف ضفتي نهر السين عام 1991 في قائمة «التراث العالمي لليونسكو»، ضمن التراث الفرنسي، ليسكنوا المكان للأبد، في وقت تشهد فيه العاصمة باريس، عمليات ترميم وعصرنة مستمرة.

ذكريات المكان وتخوّف مشروع

 أرادت بلدية باريس، في السنوات الأخيرة، إعادة ترتيب أوراق بيت بائعي الكتب القديمة، بعد انحراف بعضهم عن بيع الكتب، وتوجههم للاتجار بحاجيات وأشياء أخرى، كالتذكارات والمجسمات الصغيرة التي يتلهف السياح لاقتنائها.

وعمدت إلى التخطيط إلى ذلك. ولكن هذا الإجراء لا بد وانه سيمحو، علاوة على قيمته التاريخية، ذكريات وحميمية أشخاص كثر، تعلقوا بالمكان، وباتوا جزءا منه، كآلان ونجيب، اللذين أصبحت ضفتا نهر السين بمثابة بيتهم الثاني، حيث غدوا يترنمون بطقوسها ومكوناتها، حيث يعشقون الرائحة المنبعثة من كتبهم القديمة، التي اصفر لون الكثير منها، لكثرة الرطوبة في المكان.

وكبائعي الكتب الذين سبقوهم في القرون الماضية، هم يشعرون كذلك، أنه هناك رسالة وتراث في أيديهم، عليهم الحفاظ عليه، وتوصيله إلى الأجيال القادمة.. ولكن، وحدها الأيام قادرة التأكيد على ذلك.

240

بائعاً ينتشرون على طول ثلاثة كيلومترات ليعرضوا..

300.000

كتاب موزعة على

900

صندوق حديدي

كتب ولوحات معروضة على ضفة نهر السين

باعة الكتب على ضفاف النهر وسط العاصمة الفرنسية باريس (1898-1900)

Email