مراحل ومحطات الحياة البشرية وصولاً إلى عصر الآلة الحديثة

«الغول»تطوّر الصناعة وتغيّر الإنسان

ت + ت - الحجم الطبيعي

هو فيلم ينتمي موضوعياً إلى الحقبة التي شهدت بواكير تاريخ السينما في العالم.. عنوانه الحرفي «الأزمنة الحديثة». ولكن عنوانه المتداول في معاجم التاريخ الفني هو «العصر الحديث» من بطولة الفنان «شارلي شابلن» (1889- 1977) الذي رسم لنفسه شخصية عامل المصنع.. الذي حمل في فيلمه المذكور رسالة إلى أهل العصر الراهن تؤكد ما يمكن أن نطلق عليه عبارة تقول بما يلي: «ميكنة الإنسان».

هذا هو الموضوع الذي اختاره محوراً للدرس والتحليل البروفيسور جوشوا فريمان أستاذ علم التاريخ بالجامعات الأميركية في كتابه الذي نعايشه فيما يلي من سطور. وقد صدر الكتاب أخيراً ليحمل عنواناً غير مألوف وهو: «الغول» (أو المخلوق الخيالي العملاق)، بعدها يلخص المؤلف موضوع كتابنا في عبارة أخرى هي: «تاريخ المصنع وصنع العالم الحديث».

وتكاد العبارة الأخيرة تلخص مراحل ومحطات التطور التي طرأت على حياة البشر، وبالذات على ما ظلوا يخترعونه ويطورونه ثم يستخدمونه من آلات وماكينات وأساليب في الإنتاج. وقد أمعن البشر في هذا المسار لدرجة بات المرء يتساءل: هل نحن اخترعنا الآلات، أم أن الآلات هي التي اخترعتنا؟!

يبدأ المؤلف من فجر المرحلة الزمنية التي شهدت التحولات الجذرية والثورية في حياة البشر وأساليب الإنتاج: من عصر الزراعة التي ظلت تعتمد على الجهد البشري والتحمّل الجسماني، ثم أوصلت إلى بواكير القرن الثامن عشر، وبالتحديد.

-كما يقول الكتاب- إلى عام 1721 الذي شهد في إنجلترا محطة التوصل إلى أول مصنع للغزل والمنسوجات باستخدام طاقة البخار التي أتاحت بدورها تحقيق ثورة في عالم النقل والاتصال منذ مطالع القرن التاسع عشر ممثَّلة في قطار السكة الحديد.

بيد أن ما يشغل بال المؤلف هو رصد وتسجيل وتحليل المتغيرات التي طرأت على حركة المجتمع البشري، وعلى سلوكيات الأفراد والجماعات، بالتوازي مع ما استجدّ على حياة الناس من آلات وماكينات لم يكن من الممكن الإبقاء عليها عبر المساحات الشاسعة من أراضي الزراعات، وإنما فرضت الآلات ضرورة «إسكانها» في مبان ذات مواصفات وضمن مرافق معينة حملت بالطبع اسم «المصانع» التي تراوحت بدورها بين المباني المبسطة وشبه البدائية.

وقد ضمت جموع العمال الذين يؤدون واجباتهم في ظروف فادحة الشظف، وبالغة القسوة من حيث المساحة المتاحة أو سبل التهوية أو إمكانية التخلص من دخان العوادم وأبخرة النفايات، وهو ما طالعته أجيال أوروبية خلال أيام القرن التاسع عشر، ولاسيما لدى قراءة الأعمال الروائية الفريدة التي أبدعها أساتذة كبار مثل تشارلز ديكنز في إنجلترا، وإميل زولا في فرنسا.

وفي هذا السياق شاعت الكلمات التي أطلقها على تلك المصانع الكلاسيكية الشاعر الإنجليزي ويليام بليك (1757- 1827) ليصف تلك المصانع بأنها «مواقع الجحيم حالكة الظلام».

ولأن المؤرخ مؤلف كتابنا معنيّ أساساً بمتابعة مسيرة وتطور العلاقة بين المصانع والبشر، فهو يصل بالقارئ إلى مطلع القرن العشرين الذي شهد توصّل الأميركي النابه هنري فورد (1863- 1947) إلى ما أصبح يوصف بأنه «خطوط الإنتاج» التي أحدثت بدورها ثورة في صناعة السيارات ثم في غيرها من الصناعات وفي أساليب الإنتاج..

وكان أن أمعنت هذه السبل المستجدة في التطور كي يمتد تأثيرها وتنتشر في شتى أنحاء عالم القرن العشرين، ولدرجة أن لم يعد في بيوتنا، نحن البشر المعاصرين، على نحو ما يؤكد مؤلفنا، آلة أو جهاز أو أداة إلا وكان مجلوباً، أو مجلوبة من هذا البلد أو ذاك من أقطار العالم، أو من هذا الركن أو تلك الزاوية من زوايا خارطة الدنيا..

ويصدق الأمر نفسه على بنايات مواقع التصنيع وهياكل الإنتاج التي أصبحت في أقطار شتى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة ثم الصين، صروحاً شاهقة تطاول ناطحات السحاب من حيث التصميم العملاق وأيضاً من حيث توزيع التخصصات وتنوعها.

وفي إطار عرض وتحليل نمط التطورات التي استجدّت مع التحول إلى عصر الصناعة.. يتطرق المؤلف إلى الخط البياني لصعود ظاهرة التقدم في حياة البشر.

وهو يوضح للقارئ مثلاً كيف أن أوروبا الغربية، وهي مهد الثورة الصناعية كما ألمحنا في القرن 18، كانت ساحة موبوءة بكوارث الجوع وجائحة المرض، حتى إن نصف أطفال فرنسا مثلاً كانوا يقضون نحبهم قبل أن يبلغوا سن العشرين، وكيف أن جاء التحول إلى المجتمع الصناعي بعد ذلك أقرب إلى مغارة «علي بابا» الأسطورية الشهيرة:

كنزاً للإثراء لصالح الجموع من أصحاب الثروات الذين تحولوا من طابع المجتمع الإقطاعي والمجتمع التجاري إلى المجتمع الرأسمالي الصناعي بكل ما انطوت عليه تلك المتغيرات من مزايا وإيجابيات، ولكن أيضاً بكل ما ارتبط بها من سلبيات استغلال العمّال من ناحية.. ومن إلحاق أذى التلوث الإيكولوجي الذي ما برح يصيب بيئة كوكب الأرض من ناحية أخرى.

Email