سياسة الانقسام حول تغير المناخ

دعوة أكاديمية لتوحيد الجهود من أجل إنقاذ كوكبنا

ت + ت - الحجم الطبيعي

«الأوكوس» عند الإغريق هو البيت. ومن هذا اللفظ استمد الألمان في لغتهم مصطلح «أوكولوجي» لينصرف إلى معاني العلاقة بين الفرد والوَسَط المحيط بمعيشته.

ثم كان طبيعياً أن يتوسع القوم ليخرج إلى الاستعمال الأعم مصطلح «الأيكولوجي»، الذي يرادف معاني الوسط البيئي أو البيئة المعيشية والطبيعية في مجتمع البشر، ومن ثم «البيئة» التي تسود كوكب الأرض الذي نعيش على سطحه، بكل ما يدل عليه هذا اللفظ من معان وتجليات، تشير إلى ما يضمه كوكب الأرض المذكور من سهول وجبال ومن بحار ومحيطات، فضلاً عما يطرأ على هذه الآلاء الطبيعية من تبدلات ومتغيرات، أصبح لزاماً على البشر إدراكها ولكي يستقوا من رصد حركاتها ووعي قوانينها، ما يمكن لهم استخراجه من عبر ودروس.

وربما انشغلت البشرية في الزمن الحديث عن استيعاب دروس البيئة، بسبب الحروب الضروس التي خاضتها الشعوب، وكان من أحدثها، الحربان الأولى (1914) والثانية (1939) في القرن العشرين.

وحلّ عقد الستينيات من القرن الماضي، بوصفه جرس إنذار للقوى المعنية بأحوال كوكب الأرض، كي تشرع في تدارس بيئة الكوكب بكل ما يحفّ بها من إيجابيات وسلبيات: هكذا شهدت السويد عقد أول مؤتمر معني بالبيئة، تلاه عقد اجتماعات عديدة، خلصت في مجموعها إلى التنبيه إلى أنه قد آن الأوان كي تخفّ البشرية إلى وضع الأسس العلمية التي يقوم عليها تخصص الأيكولوجيا - أحوال البيئة الكوكبية وعلاقة هذا كله مع معيشة البشر ومصائر الشعوب.

ثم جاء عام 1992 ليشكل بدوره مناسبة محورية وتاريخاً فاصلاً بكل المعاني في هذا المضمار: هو العام الذي شهد انعقاد الفعالية الدولية التي حملت العنوان التالي: مؤتمر ريو دي جانيرو (البرازيل)، المعني بالبيئة والتنمية (مؤتمر الأرض).

وشارك في مؤتمر «الأرض» معظم رؤساء الدول والحكومات الذين أصدروا «إعلان ريو»، من أجل نشر الوعي وحفز الهمم المعنية بأمور البيئة وقضاياها، وخاصة ما يتعلق بتغير المناخ الكوكبي، حيث لا يزال كوكبنا مهدداً بارتفاعات مطّردة في درجة حرارة الأرض وانصهار جبال الجليد القطبية، ومن ثم ارتفاع مناسيب المسطحات المائية في البحار والمحيطات مما يهدد بإغراق الأراضي الواطئة في «دلتاوات» أنهار الشرق والغرب، بل يهدد بإغراق دول وأقطار جزرية بأكملها إلى قاع البحر المحيط.

وعلى كل حال، لم يعد التصدي لقضايا البيئة ترفاً فكرياً ولا تخصصاً علمياً، بقدر ما أصبح شأناً عولمياً من ناحية.. وهمَّاً من هموم الإنسان العادي في كل أقطار كوكبنا. ولذلك، أصبح من ألزم ما يكون العمل على تعبئة قوى المجتمع المدني من أجل تعزيز الوعي وحشد الجهود الكفيلة بمواجهة قضية ـ آفة تغيّر المناخ بالدرجة الأولى، وهو ما وعته وسجلته قمة باريس المعنية بقضية «تغير المناخ».

وفي هذه الأجواء، يصدر كتاب د. جنيفر هادن، أستاذة السياسة وأصول الحكم بجامعة ماريلاند الأميركية، تحت عنوان: عن الشبكات المتصارعة.. سياسة الانقسام حول تغير المناخ.

ولعل أهم ما يطالعه القارئ منذ الفصول الاستهلالية من هذا الكتاب، تلك الملاحظات التي تشدّد عليها المؤلفة، حين تنبه إلى أن أوجه الخلاف المحتدمة بين المنظمات العديدة المعنية بالبيئة وتغيرات المناخ، قد أدت إلى النيْل من زخم الدعوة إلى تعزيز وترشيد التعامل مع قضية المناخ. وفي السياق ذاته، تعرض مؤلفة الكتاب للسبل العديدة والمتباينة الممكن اتباعها من أجل خلق وتمهيد الأرضيات المشتركة التي تكفل التنسيق بين الدوائر والمنظمات المعنية بقضايا تغير المناخ، سواء على المستويات الوطنية ـ المحلية أو على الصعيد الدولي ـ الكوكبي بشكل عام.

وفي مقدمة هذه السبل التي يعرض لها الكتاب، ما يتعلق بضرورة مواصلة البحوث العلمية الموثوقة التي تشكل نتائجها نبراساً يضيء الطريق أمام راسمي السياسات وصانعي القرار في مختلف دول العالم، وصولاً إلى تشكيل رؤية أكثر شمولاً بالنسبة لما قد يترتب على التغير المناخي في الحاضر وفي المستقبل، من تبعات وأخطار تمسّ حياة البلدان والشعوب، بل تمسّ المشهد العالمي- الغلوبالي، كما قد نسميه في التحليل الأخير.

وفي السياق عينه، يدعو الكتاب إلى الأخذ بمزيد من التنسيق بين المنظمات، غير الحكومية بالذات، وعلى مستوى رقعة العالم بشكل عام. بما يتيح تبادل البيانات والنتائج التي تسفر عنها البحوث العلمية والجهود الأكاديمية، وبحيث يكفل هذا النمط من التعاون شق المسار الموحد المطلوب لمجابهة المتغيرات المناخية، وخاصة ما يتعلق منها بصحة الإنسان والنبات والحيوان على سطح الأرض. وهذا ما تطلق عليه المؤلفة اسم «الحركة الدولية المعنية بتغير المناخ».

وهي ترى أن دعائم هذه الحركة إنما تتجسد في جهود العناصر الناشطة، من علماء اختصاصيين ودعاة عاملين بين صفوف الجماهير وإعلاميين، يتحلون بمزيج من الوعي بالموضوع وبكفاءة الأداء ونقاء الإخلاص لقضية البيئة، ولا سيما من منظور متغيرات المناخ، وهي متغيرات تتصل بسبب أكثر من وثيق بالحياة اليومية للمواطن العادي، على اختلاف الأوضاع والأوساط والثقافات.

ويلحظ القارئ أن المؤلفة تركز الحديث بالذات على قوى وفعاليات المجتمع المدني، باعتبار أن شرائح المجتمع المذكور، وبمعنى عامة المواطنين، هي الأكثر تضرراً من مغبة ما ينجم من عواقب ـ سلبية في أغلبها - نتيجة التغيرات المناخية، وخاصة عندما تتمثل هذه العواقب في موجات الأعاصير، كما يحدث مثلاً في أميركا الوسطى، وفي أجزاء شتى من قارة أميركا الشمالية أو في عواقب ومخاطر آفات الجفاف التي تضرب بقاعاً مختلفة من القارة الأفريقية، ناهيك عن موجات تسونامي المحيطية المدمرة في المحيط الهندي أو في المحيط الهادئ.

Email