الشعبوية السياسية واستفحال تأثيرها

كثير من الأحداث السياسية المستجدة في عالمنا الراهن، جعلت المراقبين والمحللين يركزون ويعكفون من جديد على رصد ظاهرة: الشعبوية واستفحالها في الحياة السياسية في عالمنا. وطبعاً، ذاك المصطلح طالما حارت البشرية في تحرير مفهومه وضبط دلالته على وجه من الدقة أو اليقين.

لكنه في كل حال، ينصرف إلى محاولة إقناع جموع الجماهير الحاشدة بأفكار ومصالح فئات تدّعي تمثيلها ورعاية مصالحها. عبر مجموعة أساليب ووسائل. من خلال طرح شعارات برّاقة تروق لهم أو تستهويهم، ومن ثم فهم يساقون إلى حيث يلوكون هذه الشعارات ويؤيدون رافعي لوائها، بصرف النظر عن أي معايير أو تفحص لها.

«ما الشعبوية؟». إن هذا السؤال هو الذي اختار أن يجيب عنه البروفيسور ﭽان- ﭭيرنر موللر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة برنستون، في أحدث كتاب أصدره، ليواكب الطروحات السياسية الراهنة حول تيار الشعبوية من حيث رموزه وأفكاره والنتائج التي يمكن أن يفضي إليها.

يعترف مؤلفنا، منذ استهلال الكتاب، بأن مصطلح «الشعبوية» لا يزال موزعاً إلى مفاهيم ومعان عدة، منها الإيجابي ومنها السلبي. وهنا يتابع المؤلف نماذج شهدها القرن العشرين، وتمثلت في الزعامات والمقولات والشعارات التي توجهت إلى إثارة أوسع قطاعات الجماهير (مثلاً: من الناخبين الذين لم يتلقوا تعليماً منظماً عالياً أو جامعياً). وهنا يسوق الكتاب أمثلة من قبيل: هتلر النازي في ألمانيا وموسوليني الفاشي في إيطاليا.

بل يسوق أيضاً مثالاً هو نظام فنزويلا تحت قيادة زعيمها الراحل هوغو شافيز (1954- 2013). ويضاف إلى هؤلاء حقبة برلسكوني في إيطاليا خلال فترة التسعينيات من القرن الفائت.. فضلاً عن دعايات وشعارات أقصى اليمين في الحياة الحزبية الأوروبية، وتمثلها مارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية في فرنسا.

وفي كل حال، يذهب الكتاب إلى أن رافعي شعارات الشعبوية، إنما يرسمون لأنفسهم ولمؤيديهم خطوطاً في الفكر والسلوك السياسي، يمكن تلخيصها فيما يلي:

هم يعلنون أنهم مع أوسع القواعد الجماهيرية وضد الصفوة أو النخبة المنتقاة، في حين أنهم، وكما يوضح المؤلف، ينتمون إلى هذه النّخب الساعية إلى تسلّم مقاليد السلطة واحتلال مقاعد الحكم.

يعلنون رغبتهم في إجراء الاستفتاءات الشعبية، وما إن يتمكنوا من السلطة فهم يسعون إلى الانفراد بمقاليد الأمور.

لا يريحهم وجود المؤسسات التي يمكن أن تفصل بينهم وبين قطاعات الجماهير العريضة، ومنها مثلاً مؤسسات الصحافة وسلطات القضاء.

يواصلون ما يصفه الكتاب بأنه عملية «الاستقطاب»، وفي غمارها لا يتورعون عن توجيه كل صنوف الانتقاد إلى النّخب التي يعلنون فسادها وإلى ما يصورونه بأنه تدخلات أجنبية من خارج الحدود.. والمهم هو الحرص على إبقاء الجماهير في حالة استنفار ضد «العنصر الآخر»، سواء كان في الداخل أو من الخارج.

وأخيراً هناك النزعة لدى سدنة هذه الشعبوية، ومن لفّ لفّهم، إلى ما يصفه مؤلف الكتاب بأنه «احتلال - استعمار» الدولة على اختلاف أجهزتها وإمكاناتها، وهو ما يتم باسم الشعب بطبيعة الحال ولا بأس في هذا السياق من تعديل الدستور أو استخدام شتى الوسائل من أجل إسكات أو قهر المعارضين.

والمشكلة أن جماعات الشعبوية عندما يتوصلون إلى مقاليد السلطة على أنقاض النظام الذي ظلوا يوجهون إليه سهام النقد والهجوم.. فهم يتوصلون إلى ذلك من خلال ركوب موجة التأييد الشعبي الذي توليه إياهم جموع الجماهير المتطلعة أصلاً إلى إصلاح الأحوال- إلا أن هؤلاء الشعبويين لا يلبثون أن يتحولوا إلى ممارسة الأساليب التي طالما هاجموها وممارسة السلطات التي طالما ندّدوا بها، وعملوا بالطبع إلى أن يحلو محلّها تحت شعارهم الأثير، وهو توخي المصالح العليا للوطن وجماهيره الغفيرة.

وعلى مستوى دول عدة من عالمنا، يوضّح المؤلف أيضاً كيف أن الشعبوية التي يعالجها الكتاب، فضلاً عن تيار الشعبوية الجديدة (نيو شعبوية كما أصبح يسمى في أوساط الميديا السياسية) امتدت آثارها ومظاهرها إلى ما بين أقطار شرق أوروبا (الشيوعية سابقاً)، حيث تروج الدعوات إلى عقد الاستفتاءات الشعبية بدعوى ضرورة استطلاع آراء أوسع قواعد الجماهير إلى الصراعات المندلعة فيما بين الأحزاب السياسية في إيطاليا.. إلى الحملات الانتخابية (الرئاسية) التي يشهدها المشهد السياسي الأميركي كل أربع سنوات.

والكتاب لا يفوته في كل هذه السياقات، أن ينّبه إلى خطورة الشعارات البرّاقة والوعود الخلّابة التي يجري طرحها وترويجها لزوم الاستهلاك الجماهيري، خاصة عندما يتم مثل هذا الطرح من خلال الميديا الإعلامية المتواطئة مقترناً - في أميركا بالذات- بما تبذله من جهود شركات الدعاية الاحترافية، ومعها أيضاً تنظيمات جماعات الضغط وقوى المصالح (اللوبي)، لصالح هذا المرشح أو ذاك.

ومن إيجابيات هذا الكتاب أنه لم ينزلق في تعريفاته لشعارات الشعبوية إلى حيث يقرنها مثلاً بالفوضوية أو الديماغوجية، وإنما انصبّ تركيز المؤلف - بوصفه أستاذاً لعلم السياسة ومحللاً للسلوك السياسي - على عنصر استثمار واستغلال مشاعر الجماهير ومحاولة التقّرب منها، من خلال ركوب موجة المصالح الجماهيرية والتركيز على ما لحق بهذه المصالح من سلبيات أقدمت على ارتكابها سلطات سابقة ونظم للحكم ماضية.. وإن كانت مآلات هذه السلوكيات السياسية لا تلبث أن تنكشف عن مصالح مستجدة للفئات التي ركبت الموجة واستغلت بساطة الجماهير، لكي تحقق ما كانت تتوخاه أو تطمع فيه من مغانم.

الأكثر مشاركة