الجزء الثاني لرومر يفضح زيف الروايات بعيداً عن المخيلة التاريخية

يروي جون رومر في الجزء الثاني من كتابه الأخير «تاريخ مصر القديمة: من الهرم الكبير حتى سقوط المملكة الوسطى»، مستنداً إلى مسيرة حياة زاخرة بالبحث، تاريخ مصر القديمة انطلاقاً من بناء الهرم الأكبر مروراً بنشأة المملكة الوسطى وسقوطها، أي الحضارة الفرعونية في أوج مراحلها والزمن الأول لازدهار الكتابة.

وقد أماط البحث المعمق الممتد على عقود من الزمن اللثام حكايا تحمل عظمة القرنين التاسع عشر والعشرين للناس، وتصوّر حضارة ملوك مستبدين وحرباً مزمنة. إلا أن الرواية الاستثنائية التي بين أيدينا اليوم، تكشف مبنيةً بجانبٍ منها على اكتشافات العقدين السابقين، ما يمكن أن نستقي منه الدروس فعلاً مستمدين مما تبقى من الأشكال الهندسية والقطع الأثرية والكتابات، أي تأريخ قائم على الحقيقة المادية.

ويبذل عالم الآثار جون رومر ما استطاع لإضفاء خاصية التعقيد على نظرتنا لقدامى المصريين في كتابه المتزن والرصين «تاريخ مصر القديمة». ويعتبر رومر صاحب المؤلفات العشر، ونجم سلسلة من الأفلام الوثائقية، مؤهلاً لرأب الصدع بين الشقين الأكاديمي والشعبي. إلا أن كل من يتوقع بأن يطالع رواية من الطراز الرفيع على امتداد صفحات الكتاب سيمنى بخيبة الأمل.

وفي حين ينطلق بنا الجزء الأول الصادر عام 2013 من حقبة المزارعين الأوائل وصولاً إلى بناء هرم خوفو، يطرح رومر فرضيات هامة حول تركيبة المجتمع المصري. ويتساءل عما إذا كان الفرعون حقاً ذاك الملك الأوتوقراطي على رأس إمبراطورية إمبريالية متسعة، يقود العبيد لتشييد المقابر والمعابد الضخمة. ولا يجزم رومر بوجود دليل قاطع، بل يشير إلى أن الأوروبيين، الذين كانوا أول فك الرموز الهيروغليفية، وفتحوا المقابر أسقطوا مثلهم على مصر القديمة، وكتب يقول بامتعاض واضح:«وهكذا توّج الملوك ملوكاً، واستعمر الماضي وتحوّل التاريخ إلى مسلسل تلفزيوني».

أما الجزء الأحدث الذي يعدّ الثاني ضمن ثلاثة مقررين، فيسلط الضوء على أمجاد المملكة المصرية الوسطى بدءاً من العام 2500 ق.م. وقد بدأت التماثيل على مقابر الملكة تيي والوزيرين مريروكا بتاح حتب، على سبيل المثال تتزين بمشاهد من الحياة اليومية. كما شهدت تلك الفترة بناء تمثال أبو الهول، وتحولت الكتابات الهيروغليفية التي كانت شحيحة إلى كتابات مألوفة.

ويتلخص ما يقوم به المؤلف باستعادة غرابة مصر القديمة، وما يطلق عليه تسمية «البقايا الأثرية الغريبة». فلنأخذ مثالاً تمثال أبو الهول الذي بني حوالي 2250 بارتفاع 240 قدماً، وكما نعلم لقد كان موضع تبجيل نظراً للمعابد التي شيدت حوله، وقد نسخت تفاصيله على لوح تذكاري للتضحية. ويخبرنا معظم العالمين التقليديين بالآثار المصرية أنه يمثل فرعوناً، ربما لأحد بناة الهرم القريبين، لكن رومر يقول إن الهرم بني في مرحلة لاحقة كتكريم لأبي الهول.

ويعني ذلك ألا فكرة محددة لدينا عن حقيقة الأمر، وأن الكاتب لا يجرؤ على وضع التكهنات، بل يتخيل وحسب ما يمكن لمصري يعبر النيل أن يرى، في وصف شاعري مثير للعواطف لا يقدم حلاً للأحجية.

وأدى التدخل الغربي في القرن العشرين، إلى التهافت على الذهب لدى المصريين. وأفاد أحد الفنانين، أخيراً، بأن أبناء القرى كانوا يحفرون الخنادق التي تصل إلى معبد أوزيريس، ويجردون المومياءات من الذهب ويرمونها في النهر إلى أن أدركوا بأن الرجال البيض مستعدون لدفع ثمن جثثها.

ولا نعلم الكثير عن حياة أولئك المومياءات، ولا الذين قاموا بتحنيطها، لكن هناك بعض التلميحات. ويحتوي معبدان في الجيزة رسائل ملكية مرسلة من الملك أسيس إلى الخادم إنتي يقول فيها: «لقد قمت بأداء أعمال خير لا حصر لها بما يجعلك تحظى بحب الملك، وإنك تعرف تمام المعرفة قدر محبتي لك». ومن الواضح أن إنتي كان من الفخر بهذا المديح بما جعله يحفر كلماته على ضريحه.

على الرغم من ترويضنا اليوم لمفهوم المصريين القدامى من خلال تصنيع علب أقلام تحمل رسم توت عنج أمون، وحلقات مفاتيح على هيئة كليوبترا، فلا تزال لأبناء تلك الحضارة قدرةً هائلة على بث الاضطراب في نفوسنا. ولنأخذ على سبيل المثال جثة الفرعون الميت منذ زمن سحيق والمسجى في خزانة زجاجية في إحدى زوايا العالم، وناووسه الحجري يخضع للتنظيف بشغف.

وتماثيل الخدم قد أعيد تجميعها وعرضها، ونقوشه يقرأها آلاف المعجبين. يدلّ كل ذلك على رحلة مدهشة للعودة إلى الحياة، مهيبة بكل تفاصيلها، تدلّ ربما على أنهم كانوا يتوقعون طيلة الوقت بأن هذا سيكون قدرهم. فلننظر إلى أعمالهم ونبتهج.

الكتاب: تاريخ مصر القديمة من الهرم الأكبر حتى سقوط المملكة الوسطى - الجزء الثاني

تأليف: جون رومر الناشر: بينغوين بوكس- 2016

الصفحات:

672 صفحة

القطع: الكبير

A History of Ancient Egypt: From the Great Pyramid to the Fall of the Middle Kingdom Volume 2

John Romer

Penguin Books Ltd

PP 672

الأكثر مشاركة