أحد رموزها يكتب عن آليات عملها وتناقضات رجالاتها

ما لم أكن أستطيع قوله.. أسرار الدولة الفرنسية

ت + ت - الحجم الطبيعي

«مجلس الدولة» في فرنسا هو أحد أعرق المؤسسات الفرنسية في مجال الرقابة على القوانين التي تسنّها الحكومات والنظر في مدى توافقها مع الدستور. وكان نابليون بونابرت هو الذي أسس هذا المجلس عام 1799. وكان نفس الاسم يُطلق على المجلس الذي كان يقوم بنفس المهمّات في ظل النظام القديم، أي قبل الثورة الفرنسية.

الرئيس الأخير على مدى السنوات التسع السابقة لـ«مجلس الدولة» هو جان لوي دوبريه، رجل السياسة الفرنسي الذي تولّى عدّة مناصب عليا في الدولة، ليس أقلها رئاسة الجمعية الوطنية الفرنسية والعديد من المناصب الحكومية من بينها وزارة الداخلية الفرنسية لعدّة سنوات.

ومن الواجبات القانونية المفروضة على رئيس «مجلس الدولة»، منعه بصورة قاطعة من البوح بأي موقف ذي طبيعة سياسية حول ما يطلّع عليه من أحداث أو مواقف. بهذا المعنى قرر جان لويس دوبريه أن «يروي في كتاب» ما كان قد عاشه ورآه وسمعه ودوّنه يوماً بعد يوم خلال سنوات 2007 ــ 2016. وهذا تحت عنوان: «ما لم أكن أستطيع أقوله».

ولا يتردد جان لوي دوبريه في توصيف ما كان يعاني منه من صمت مفروض أثناء رئاسته لمجلس الدولة بأنه عانى خلال سنوات تسع من الإحساس بـ«الحرمان». من هنا يبدو هذا الكتاب، «الاعترافات»، بمثابة القطيعة مع «واجب التحفّظ» وتقديم شهادته عمّا عرفه وخبره من كواليس عالم السياسة وما عانى منه هو نفسه في التعامل مع كبار مسؤولي الدولة.

والمادة الأساسية لهذا الكتاب هي خليط من الذكريات والتعليقات والتوضيحات التي يقدّمها جان لويس دوبريه حيال العديد من القضايا والجدل الذي ثار حيال العديد من مشروعات القوانين. هذا إلى جانب العديد من المواقف و«المواجهات» التي جرت مع أصحاب أعلى المناصب مثل الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، والأحاديث التي جرت مع الرئيس الحالي فرانسوا هولاند، والرئيس الأسبق فاليري جسكار ديستان، وآخرين مثل آلان جوبيه وغيرهم.

المؤلف يعود إلى العديد من الوقائع التي يؤكّد فيها أن الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي «يفتقر إلى حس رجل الدولة»، وأنه بالتالي يمثّل «خطراً على القيم الجمهورية». ولا يتردد في التأكيد بوضوح أن الرئيس ساركوزي أراد أن «يقصيه» عن رئاسة «مجلس الدولة» عام 2009.

ومما يرويه رئيس مجلس الدولة السابق، أنه قبل فترة قصيرة من قرار «المجلس» حول القانون الخاص بإمكانية الإبقاء على السجين في السجن بعد نهاية فترة الحكم عليه إذا جرى اعتباره خطراً على المجتمع، اتصل به رئيس الجمهورية نيكولا ساركوزي. وقال له: «أنا الذي أراد هذا القانون وقد التزمت بذلك. وينبغي عليك ألا تمسّه».

ومما يرويه المؤلف أنه خلال يومي 25 و26 من شهر أبريل 2008، عندما سافر إلى الدوحة لحضور مؤتمر دولي، وجد السفير الفرنسي في حالة «إنهاك وعصبية»، بسبب «نزوات» رشيدة داتي التي كانت آنذاك وزيرة للعدل في الحكومة الفرنسية.

ويكتب أنها تصرّفت كـ«فتاة صغيرة مدللة»، بحيث أنها تطلب مثلاً «مزيّناً لشعرها عند الساعة الحادية عشرة ليلاً، وتعامل السفير كخادم لديها، ووصلت متأخرة إلى وجبة غداء رسميّة. ووجدت نفسي مرغماً للطلب من مضيفينا البدء من دونها.. وأنا أحس بالعار من سلوكها».

ومن السمات التي كان مؤلف هذا الكتاب جان لوي دوبريه، قد اشتهر بها لدى الرأي العام، أنه يميل دائماً إلى الحديث بـ«حرية»، بعيداً عن جميع أنواع الرقابات. وهو يتابع في هذا الكتاب ما يؤكّد مثل تلك المقولة.

ذلك إضافة إلى أنه عرف كيف يعطي هذه المؤسسة القانونية العليا دوراً فاعلاً، من خلال «المواجهات»، بل «المعارك» التي خاضها مع العديد مع المسؤولين السياسيين الكبار حول عدد من الملفات. هكذا لا يتردد مثلاً في وصف إدوار بالادور، رئيس وزراء فرنسا الأسبق، بأنه «صلف ويتعالى على الآخرين».

ويكتب عنه ما مفاده: «ربما هو الوحيد بين رجال الدولة الذين قابلتهم، من اليمين واليسار، الذين أكنّ لهم القليل من الاعتبار». بالمقابل يبدي دوبريه الكثير من التعاطف مع الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك. ويصفه في جميع حالاته من حيوية وإنهاك وحديث مفرط ولحظات صمت. ويحكي كيف أن شيراك اتكأ عليه في عيد ميلاده الثمانين. وعن آلان جوبيه يشير دوبريه أنه الرجل الذي ليس مديناً لأحد في مسيرته السياسية.

وفي العموم، نتبين أن الكتاب يحكي عن أسرار وحكايات تسع سنوات مما كان يجري في كواليس السلطة في فرنسا، وآليات عمل الدولة بمختلف مؤسساتها. والكثير من الحكايات عن رجال السياسة والحكومة الذين برزوا في المشهد السياسي الفرنسي خلال السنوات التسع السابقة.

مما يشير له دوبريه في مقدّمة الكتاب، أنه استرشد في عمله قبل كل شيء في مهمّة رئاسته بـ«احترام الدستور»، واحترام القيم التي أرستها الثورة الفرنسية، بعيداً عن محاباة أي سلطة. وإشارته في هذا السياق أن هذا كان سلوكه في جميع مواقع المسؤولية التي تسلّمها.

 

Email