تأصيل أثر التسامح في استقرار المجتمعات وتنقيتها من الكراهية

«اللوحة الناقصة».. واقع ينتصر فيه الإبداع

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحدثنا الدكتور هزوان الوز في روايته «معرض مؤجّل» عن الطفولة والمراهقة لإنسان عاش وتربى في دمشق. وإذا كان الناقد الفرنسي لوسيان غولدمان رأى أنّ الرواية بشكل عام يجب أن تكون سيرة وتاريخاً اجتماعياً، فإنّ هذه الرواية تنجز هذه الضرورة وتتجاوزها من خلال تقنية تعدد الأصوات، من السارد إلى المدير إلى المنضد، وبين هؤلاء يُسمع صوت التاريخ؛ تاريخ سوريا عموماً، ودمشق خصوصاً، الذي يجهر بنفسه من خلال ما اصطلح عليه المؤلف بـ«مرآة النص».

تبدأ الرواية بعشر لوحات، تليها اللوحة الناقصة، وخلال ذلك يكون الكاتب قد حكى تاريخه الشخصي، وتاريخ دمشق، ويزين النصّ بعدّة مقتطفات أضفت على عمله رؤية توضح ما يريده.

سكنت العائلة في منطقة القابون القريبة من دمشق، وهي عائلة تنتمي إلى دين آخر، ومع ذلك عاشت بتسامح ومحبة في المنطقة لا يوجد فيها سكان غير أهلها، لأن والده يعمل في الشركة الخماسية، عامل نسيج، وهو يساري، يصبح ويمسي عليهم بما صنعه الاتحاد السوفييتي من إنجازات، وترد عليه زوجته الصابرة بأن ينظر الحال التي آلت بهم و"الفقر الذي لم ينفك عن صداقتنا نحن وأهل هذا الحي، إنه يعيش معهم؛ في طعامهم، في ملابسهم، في فراشهم، في كتبهم المدرسية"... ويعدّد الكاتب الأشياء التي تنتمي إلى الفقر، وتعيش بينهم.

عاشت العائلة بين أهل القابون، وانخرطوا جميعاً في تعايش مجتمعي مسالم، فلم يختلفوا عنهم لا في لباس ولا في عادات أو تقاليد، إذ كانت المواطنة تجمعهم ولا يفرقهم أي انتماء أو انتساب، حتى أصبحوا جزءاً من أهل المنطقة.

تشكّل الرواية سيرة فرد كما هي سيرة المجتمع، ومن خلالها نتعرف على عالم يتأرجح بين الواقعي المستغرق في انتمائه إلى الحقيقة والتخييلي المتحرر من قيود الواقع، إنه يبحث عن واقع بديل، واقع ينتصر فيه الإبداع، والفن التشكيلي في الرواية هو مثال للطهر والصفاء والنقاء في مواجهة الأفكار والانتماءات المختلفة والإيديولوجيات المؤرقة من دون أن يكون لها رصيد سوى ما يمكِّنها من البقاء على قيد الحياة.
يستخدم الكاتب لغة هي أقرب إلى بساطة الماء، لغة سلسلة تتدفق من نبع لا يعوقها شيء، وهي كوسيلة للتعبير وتوصيل الأفكار تشارك في تكوين نفسها، وكأنما «الكاتب» يحكي لنا كلّ يوم، على طريقة شهرزاد، حكاية، لتكتمل الرواية، ونحن نصت إليه بصمت وخشوع.

لقد رتب الروائي وحدات البناء وفق تسلسل أفقي، بحيث تفضي كلّ بنية سردية إلى الأخرى من غير أن يتخلل هذه الأحداث ما يعرف بالتصاعد أو الذروة، أي إن الأحداث في الرواية تنطلق بشكل دائري، وتنداح اتساعاً وتسلسلاً في غياب تام لأي مظهر من مظاهر التوتر، وهذه هي أهم الوقائع التي نهضت عليها معمارية البناء السردي لرواية «معرض مؤجل» أبرز الكاتب من خلالها ردود الأفعال البشرية في أحرج الظروف وأقسى التحديات.

Email