حدث ذات مرّة في حلب أمل يتحدى الخراب

ت + ت - الحجم الطبيعي

يجلس فؤاد م. فؤاد، على أطلال مدينة حلب. فيراها سوداء وموحشة. إنه يسمع رشقات رصاص متقطعة تأتي إليه من مكان ما، وقذيفة واحدة يسبقها صفير غريب، ونسوة ينتظرن أولاداً صاروا أرقاماً في نشرة الأخبار. لقد أقفرت المدينة، فالشاعر لا يرى فيها جلسة موسيقى، ولا نساء، ولا ندامى، حتى الأغنية صارت حلماً، والذين يستيقظون ويجوبون الليالي، هم وحوش العتمة.

يتألم فؤاد وهو يكتب القصيدة، وهذا ما ورد في ديوانه «حدث ذات مرّة»، والناس الذين يزحفون من طرف الشارع إلى طرف الشاشة يتركون أثراً على الإسفلت، سرعان ما يكبر مثل سياج من الحب، يرمون الورود، ثم يموتون على عجل، ويطالبنا بأن نخلع نعلينا لأننا في الوادي المقدس.

إحدى النساء كانت عائدة من المقهى الذي بجانب القلعة، لا تدري أنها ماتت إلاّ بعد أن ذهبت مع الآلاف الذين يرتدون الأبيض ويلوحون بالورود، هنا القتلة يعيشون طويلاً، يملكون الوقت، وخيط الدم لا يزال يسخُّ خلفهم ككلب أعرج.

الطلاّب الصغار يموتون في حلب بأدنى ضجة ممكنة، فقد عبروا على رؤوس أصابعهم كي لا يقلقوا الناس من نومهم، وهم يتركون باب الحياة الثقيل، فعلاً لن يكونوا مادة القصيدة أو خبراً في شريط يعبر سريعاً، نساء يحملن أطفالاً، البارحة كانوا يلهون بحلق من الخرز، واليوم هم أطفال مقطوعو الرؤوس، إننا نعيد اختراع الحياة.. إنها حلب، حيطان مهدّمة وأحجار مقلعة في مدينة مرسومة بالأبيض والأسود، كوى مفتحة بين منزلين، وعصفور يرتعش في كفّ صغيرة، ..الموت ينمو في الحارات الخلفية كنبات أسود... في حلب، ينظر الموت في المرآة برهة، ثم يضغط على الزناد، النفايات تتراكم، والأعضاء المتفسخة والأمل الملوث ببرك الدم الفاسد.

مقهى قصر جحا، مقهى المثقفين، هو الآن حطام وغبار وأنقاض فوقها أنقاض، والشاعر لم يكن يدري أن المقاهي تقتل البشر.. ومقهى القصر.. هنا بين حوارين يطاردنا الثالث إلى الموت، قبل أن يدور النادل دورته، يتمنى الشاعر أن يفيق ويرى الأرض خراباً، ليجد الهزائم والمقاعد الفارغة في المحطات المهجورة، وأحلام سيمحوها النهار.

السريان القديمة، ينظر إليها الشاعر، فيجدها ضيقة تشبه قطعة نقد صغيرة، فالبنايات جاءت بعد أن جاء السكان، والسريان ناموا هنا ثم بنوا فوقهم طوابق كثيرة، يرحلون إلى أوروبا، منهم يعبرون العمر متمهلين ثم يرمون بأنفسهم في المتوسط. بهذه اللغة البسيطة يصوّر مدينة حلب، المدينة التي يراودها القتلة والسفاحون ويرمون عليها كل حقدهم وبطشهم لتتحول المدينة الجميلة إلى ذكرى من التاريخ.

ينقسم الزمن عند «فؤاد» إلى زمنين، زمن تاريخي، وزمن غير تاريخي، الزمن التاريخي هو زمن الخيول البرية التي كانت تتنفس بحرية، وزمن غير تاريخي، هو زمن الموت، وواقع المدينة، لكنه واقع أسود، مرير، تحطمت فيه المدينة، ومات كثير من الناس، والبعض ما زالوا يموتون، ولكن من بين هذا الموت يستيقظون، لإعادة بناء الأمل. وبين الزمنين يأتينا صوت الشاعر، يتغلغل فينا ليقول: لن تعود المدينة إلى سابق عهدها، هذا زمن الجمود الذي يتوحد فيه الصمت والموت. يصدر الخطاب الشعري من صيغ اللغة المهموسة، وإذ ذاك يتوجه إلى المدينة الخراب، فينعيها إلى حد الارتواء، ثم يقيم الشاعر مع الجماعة لبناء الأمل.

الكتاب:

حدث ذات مرّة في حلب

المؤلف:

فؤاد م. فؤاد

الناشر:

دار رياض الرئيس للكتب والنشر - بيروت 2017

الصفحات:

120 صفحة

القطع:

المتوسط

Email