ليس بعيداً عن مضمون وأجواء أنماط الحياة في بلدات المكسيك الحدودية، كان منبع ومنهل حكايات روايات الأميركي جون ستاينبك، الحائز على جائز نوبل للآداب، ومن قصصها الشعبية القديمة استلهم روايته الأشهر: «اللؤلؤة»، أثناء زيارته عام 1940 إلى منطقة «لاباز» المكسيكية التي كانت تعرف وتشتهر بصيد اللؤلؤ.
كان الكاتب قد ترعرع في منطقة وادي ساليناس في كاليفورنيا، وهو مكان يعج بالمهاجرين المكسيكيين وتاريخهم، ولا بد من أنه استمع إلى قصصهم وطور أسلوباً في الكتابة يشبه سردهم، سواء في طريقة إشارتهم إلى أسرهم أو أصدقائهم، والعالم من حولهم. وكان قد كدح في شبابه في المزارع في تلك الأنحاء وفي مصانعها، فجاءت العديد من شخصيات رواياته تصور أشخاصاً كادحين التقاهم على الأرجح في حياته.
وكمعظم الحكايات الشعبية، فإن رواية «اللؤلؤة»، وهي عبارة عن رواية صغيرة، مليئة بالرموز وتحمل رسائل أخلاقية في مسار استكشافها للطبيعة البشرية، كالجشع والحسد والكبرياء والشر واحتمالات الحب.. وغيره.
وتتناول الرواية مجتمع السكان المحليين وما آلت إليه أوضاعهم بعد دخول المستعمر الأوروبي، حيث نلتقي بالشخصية الرئيسية كينو، الذي يعمل، كما والده وجده من قبله، في الغوص، بحثاً عن اللؤلؤ في قاع الخليج في المكان نفسه، حيث راكم ملوك إسبانيا في الماضي ثروات طائلة. لكن كينو يؤمن لعائلته من هذا العمل، والمؤلفة من زوجته جوانا وطفل رضيع، حياة الكفاف.
أغنيات
بدءاً من الصفحات الأولى للرواية، هناك وصف للعلاقات الأسرية في كوخ صياد فقير في ساعات الفجر الأولى لنهار عادي رتيب. كينو في فراشه وقد استيقظ ليجد زوجته، جوانا، راقدة بجانبه تنظر إليه، بينما ابنهما الرضيع، كويوتيتو، في سريره. وفيما يستمتع بطل الرواية بأصوات أمواج البحر، ورائحة الذرة التي تعدها زوجته للفطور، يعن على باله لحن موسيقي، «أغنية العائلة».
حيث الأمان والدفء والكمال. كان أجداده قد ابتكروا أغاني لكل شيء في الحياة، كانت الأغاني طريقتهم في التعبير، قبل أن يأتي المستعمر الأوروبي، بل إنهم ابتكروا حتى «أغنية للشر» التي سرعان ما نسمع صداها في كوخه الصغير الآمن، مع اقتراب عقرب من سرير كيوتيتو، ولدغه له. وعلى الأثر، أسرع كينو وزوجته إلى منزل الطبيب الذي يرفض مساعدتهم لأن الأسرة لا تملك المال. فيتجه الثنائي إلى البحر، حيث يصطاد كينو لؤلؤة كبيرة جداً كبيضة النورس، ومع هذه اللؤلؤة يأتي الأمل بحياة أفضل.
أوهام
تخبرنا الرواية عن الخيارات التي تبنتها الشخصيات في سعيها وراء أحلامها: «كن حذراً مما تتمناه»، كينو الصياد الفقير الذي يحلم بتوفير التعليم لابنه والخلاص لشعبه من الفقر والجهل، لكن «في خليج الضوء الغامض، كانت هناك أوهام أكثر من حقائق»، وقد أظهرت وعود اللؤلؤة بالثراء، الشر الكامن في اللاوعي المجتمعي.
اللؤلؤة تشكل الرمز الرئيسي بالقصة، وما كاد ينتقل خبر العثور على «لؤلؤة العالم» في القرية، حتى يتدفق إلى منزله المنتفعون والطامعون، حتى الطبيب الجشع الذي رفض مداواة رضيعهما سيظهر في منزله معتذراً عن كلامه العنصري، ومتظاهراً بإنقاذ طفله لمقايضة اللؤلؤة، وفي الرواية، صور ستاينبك لصوصاً كثيرين حاولوا سرقتها تحت جنح الظلام...
فكرة
إثر تعرض الأسرة في ليلة للهجوم، تشعر الزوجة جوانا بأن اللؤلؤة تمثل الشر، وينبغي التخلص منها، لكن كينو يرفض تماماً، لا سيما وأن أحلامه كانت تكبر، وهو يفكر في تعليم طفله وبتوفير زواج لائق له مستقبلا في الكنيسة.. وبشراء بندقية لنفسه وثياب لزوجته، لكن أحلامه تلك ستعميها مشاعر الحسد. وستولد أعداء له.
فساد
بعد تعرضه للهجوم، عقد كينو العزم على التخلص منها ببيعها في «مزاد تجار اللؤلؤ» في المدينة، حيث تجار فاسدين محتكرين غشاشين يرفضون منحه ثمن اللؤلؤة الفعلي، وقد وصف تساينبك تلك البلدة بأنها «حيوان استيطاني يتمتع بجهاز عصبي: رأس وأكتاف وأقدام». ولكنهم في الحقيقة كانوا جميعا يتقاضون رواتبهم من شخص واحد.
يقرر كينو على الأثر أن يعبر الجبال إلى العاصمة لبيعها. وفي أثناء ذلك، تشعر زوجته بأن اللؤلؤة ستدمر الأسرة، فتقرر رميها في المحيط، فيمنعها كينو ويقوم بضربها بوحشية. وأثناء عودته إلى منزله يهاجمه أحدهم، فيقوم كينو بقتله لكنه يصل منزله فيجده وقد اشتعلت فيه النيران. فتقرر الأسرة مغادرة القرية تحت جنح الظلام، لكنها تكتشف أن ثلاثة رجال في أثرهم، فيهاجمهم كينو ويقتلهم، لكن في سياق ذلك تنطلق صرخة الموت معلنة وفاة طفله بطلق ناري. وفي الختام، تعود الأسرة الحزينة المكلومة إلى القرية، حيث يرمي كينو اللؤلؤة في قاع البحر.
أسود وأبيض
قد تكون «اللؤلؤة» واحدة من الروايات الأكثر شعبية. وفيها، نتبين كينو وقد عاش قبل عثوره على اللؤلؤة، حياة مسالمة وآمنة، في انسجام مع العالم الطبيعي. يقول عن الصباح قبل عثوره على اللؤلؤة «صباح مثل غيره من الصباحات ومع ذلك رائع بين الصباحات»، ولكن بامتلاكه الجوهرة، فقد حياته السابقة من أجل أحلام جديدة.