يقدم الكاتب أحمد عبد المجيد في روايته الجديدة «التابع» تجارب روحانية تنتمي للسياق الإنساني، محاولاً طرح محاور مختلفة للرواية؛ فهي من جانب تتناول فكرة روح الطفولة التي إذا فقدناها نضيع ولا نجد أنفسنا، ومن جهة أخرى تتناول «التبعية» التي تمسخ الهويّة الإنسانية وتقودنا لارتكاب أبشع الشرور، ومن جهة ثالثة تتناول مفهوم اليقظة التي نحتاج إليها للخروج من غفلتنا وإيجاد أنفسنا.

وفي حوار خاص مع «بيان الكتب» يتحدث عبدالمجيد عن ملامح مشروعه الأدبي الخاص الذي ينبع مما يشغله ككاتب، مؤكداً في السياق أن الإبداع لديه يتعلق بالدرجة الأولى باللاوعي، وأن الكاتب الذي يطلق العنان للاوعيه ولا يحاول السيطرة عليه سوى بقدر ضئيل سيُنتج أعمالاً عظيمة..كما شدد على أن الرواية فضاء إبداعي يثري القيم الإنسانية ويحصنها.

نبدأ من آخر أعمالك «التابع».. ما الذي تميزت به لتحقق هذا النجاح من وجهة نظرك؟

ربما كان القراء والنقاد هم الأقدر مني على إجابة هذا السؤال، فأنا لا أنشغل سوى بالكتابة، أما تحليل أعمالي للوقوف على مسببات ردود الأفعال عليها فقد لا أكون بارعاً فيه، لكن يمكننا القول إن الرواية جاءت بشكل ما مختلفة عما اعتاده القارئ مني، وفي الوقت نفسه ليست بعيدة عن روح كتاباتي؛ فالقارئ تعوّد مني في التجربتين السابقتين «ترنيمة سلام» و«عِشق» عرض تجارب روحانية ذات حبكة واضحة، بينما تمتاز «التابع» بجو من الغموض وتحتاج من القارئ بذل جهد لتتكشف له أبعادها؛ فالقارئ هنا يشارك في العملية الإبداعية من خلال إعادة صياغة الرواية بأحداثها داخل ذهنه وتجميع خيوطها.

تجارب روحانية

في رواية «التابع»، لم تسر على نهج روايتيك السابقتين «ترنيمة سلام» و«عِشق» في تقديم خلفية صوفية للأحداث والأفكار، بل قدمت أفكاراً إنسانية عدة، متفجرة ومتتالية، لماذا؟ وما هي أبرز الأفكار الإنسانية التي قدمتها الرواية؟

لا أعتبر أنني أكتب روايات ذات طبيعة أو مضمون صوفي، بقدر ما أقدّم تجارب روحانية تنتمي للسياق الإنساني الذي نكتب فيه جميعاً ككتّاب، في «ترنيمة سلام» مثلاً كانت التجربة روحانية لا تنتمي لسياق ثقافي معين، ربما الأحداث كانت تدور في أماكن دينية، لكن طبيعة التجربة نفسها كانت متعددة الثقافات، تجلى ذلك بوضوح في طبيعة التمارين الروحانية التي كان المعلم يطلب من خالد محفوظ بطل الرواية القيام بها.

في «عِشق» مرّ البطل في إحدى مراحل الرواية بتجربة صوفية، لكن هذا لم يكن الأساس في الرواية، ففي النهاية وجد نفسه في مكان آخر تماماً وذا طبيعة إنسانية كذلك. أما «التابع» فتدور حول أكثر من محور، فهي من جانب تتناول فكرة روح الطفولة التي إذا فقدناها نضيع ولا نجد أنفسنا، ومن جهة أخرى تتناول فكرة التبعية التي تمسخ الهويّة وتقودنا لارتكاب أبشع الشرور، ومن جهة ثالثة تتناول مفهوم اليقظة الذي نحتاج إليه للخروج من غفلتنا وإيجاد أنفسنا.

ترنيمة سلام

لماذا يرتبط اسمك حتى الآن لدى القارئ برواية «ترنيمة سلام» رغم تقديمك لأعمال روائية أخرى، أو بمعنى آخر: لماذا هي الأكثر شهرة بين رواياتك؟

من الشائع أن تكون لدى كل روائي رواية أو أكثر هي الأشهر لديه، لسبب أو لآخر، فإذا ذُكر فيكتور هوغو مثلاً ذُكرت روايته «البؤساء» أو «أحدب نوتردام»، رغم أن لديه العديد من الأعمال الأخرى التي قد تكون أقوى فنياً وأوقع تأثيراً، وإذا ذُكر نجيب محفوظ فأول ما يتبادر للذهن ثلاثيته، أو أولاد حارتنا، أو الحرافيش، وهكذا.

«ترنيمة سلام» كانت بطاقة تعارفي مع القارئ، فهي روايتي الأولى، وأبرزت للقارئ مشروعي الروائي بشكل كبير، ناهيك عن أنها وصلت للقائمة الطويلة في جائزة الشيخ زايد بعد صدورها بشهور قليلة، وإضافة لذلك فالحالة الشعورية الجارفة فيها راقت لكثير من القراء.

مشروع الكاتب

بينما يبحث الكُتَّاب الشباب عن أفكار غريبة وغير معتادة لأعمالهم اختار أحمد عبدالمجيد لنفسه طريقاً بعيداً وحيداً، وصفته بمشروعك الأدبي الخاص.. ما ملامح هذا المشروع؟

الكتّاب الشباب ليسوا فئة واحدة بل هم أطياف عدة، وكثيرون منهم لديهم مشاريعهم الخاصة، بعضهم يكتبها بنضج ووعي، وبعضهم لم تتضح لديهم الرؤية بعد، لكنهم في طريقهم لذلك. أعتقد أن مشروع الكاتب ينبع بشكل مباشر مما يشغله، وما يشغلني في الوقت الراهن هو الكيفية التي نرى بها عالمنا.

أنا أراه عالماً ودوداً يمكن مصادقته والتحالف معه، وعبرت عن هذا من خلال رواياتي الثلاث؛ ففي روايتي الأولى «ترنيمة سلام» كنت أبحث عن إمكانية العيش بسلام في هذا العالم، ثم وجدت بعدها أنه لا يمكن للمرء أن يصل للسلام النفسي ما لم يعش الحب الحقيقي، ومن هنا جاءت روايتي الثانية «عِشق»، ثم بدا لي أن الإنسان لا يمكنه الوصول للسلام النفسي ولا عيش الحب الحقيقي ما لم يكن حراً، ومن هنا جاءت روايتي الثالثة «التابع».

هل تؤمن بوجود سقف معين يتوقف عنده الإبداع؟

الإبداع يتعلق بالدرجة الأولى باللاوعي، والكاتب الذي يطلق العنان للاوعيه ولا يحاول السيطرة عليه سوى بقدر ضئيل؛ في اعتقادي سيُنتج أعمالاً عظيمة. أي قيود نضعها هنا ستحدّ من هذا الانطلاق العفوي، ولن أقول إنها ستنتج أعمالاً أقل أو أضعف، ولكنها ستضيّع على الكاتب فرصة أن يصل بإبداعه لأقصى ما كان بإمكانه أن يصله لو لم تكن هناك قيود موضوعة عليه.

سابقاً وصلت إحدى رواياتك «ترنيمة سلام» للقائمة الطويلة في جائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها الثامنة فرع المؤلف الشاب.. هل نؤمن بأهمية الجوائز للكُتاب؟

أهمية الجوائز تأتي من أنها تُسلّط الضوء على إنتاج الكاتب، فنحن مثلاً لم نكن ندرك أن هناك رواية قوية في دول الخليج العربي قبل ظهور جائزة البوكر التي عرّفتنا إلى الرواية العربية بشكل كبير، بعد أن كانت في أذهاننا مرتبطة بدرجة كبيرة بالرواية المصرية.

بالنسبة إليّ كان وصول روايتي الأولى لمنافسات جائزة الشيخ زايد دفعة قوية لي وأنا أخطو خطوتي الأولى، جعلت القراء يعطونني فرصة وضمنت لي قدراً من الشهرة في مرحلة كنت سأحتاج معها لبذل الكثير من الجهد للتعريف بنفسي لولاها.

ولأكون منصفاً، فالجوائز في حدّ ذاتها لا تصنع النجاح، هي فقط تمنحك تقديراً يُشعرك بأن هناك صدى لما تكتبه، وتعطيك الفرصة لتتم قراءتك، وبعد ذلك يكون القراء هم الفيصل.

ككاتب.. ما فائدة قراءة الروايات؟ وهل بالفعل الروايات تمنحنا الفرصة لنكون أكثر إنسانية؟

هذا السؤال يثير الحيرة ويقودنا مباشرة لسؤال آخر حول فائدة الفنون بشكل عام، هل سأحصل على فائدة من استماعي لأغنية لأم كلثوم مثلاً؟ الفنون فائدتها غير مباشرة، فهي تُحدث أثراً في روحك قد لا تدركه الآن، ولكن مع الوقت، وكذلك قراءة الروايات.

أنت عندما تقرأ رواية فأنت تخرج من نطاق عالمك الضيق وتعيش في عوالم أخرى ربما لم تتخيل يوماً أن تزورها، تخوض تجارب لم تسمع عنها، تقابل شخصيات ربما قابلتها أو لم تقابلها، لكن في كل الأحوال لم تتح لك الفرصة لتعرفها عن قرب وتتفهمها وتتعاطف معها. نحن عندما نقرأ الروايات نجد أنفسنا بشكل لا إرادي نتعاطف مع الشخصيات التي نقرأ عنها، نضع أنفسنا مكانها ونتعاطف مع مصيرها.

تلك الشخصيات ربما تنتمي لثقافات مغايرة وتعتنق مبادئ وأفكاراً وعقائد مختلفة عنا، ومع ذلك نتواصل معها ونشعر بقربها منا، ما تفعله الرواية بنا هنا أنها تزيل كل الحواجز المفتعلة التي وضعناها بيننا وبين من نظنهم «الآخرين»، فلا يتبقى سوى الإنسان. أجل، الروايات تمنحنا الفرصة لنستعيد إنسانيتنا ونصقلها من جديد..والتمسك بالقيم والجمال.

هل بدأت العمل على نص أدبي جديد؟

أنا دائماً في حالة عمل على نص ما، لكن ليس بالضرورة أني أكتبه الآن، فهناك دوماً فكرة تراودني وأظل أقلبها بداخلي وأحاول هضمها واستيعابها، وقد ينتهي الأمر بأن هذه الفكرة ليست هي الفكرة المناسبة الآن، فأنحيها جانباً وأبدأ التجاذب مع فكرة أخرى، وهكذا. وفي الشهور الأخيرة هناك فكرة تشغلني وأخذت ملامحها تتضح، وبدأت بالفعل بعض الكتابات الأولية حولها، وقد ينتهي الأمر بنص مكتمل، أو بمجرد محاولة أخرى من ضمن المحاولات.

«التابع»..حيرة في عالم لامحدود

تدور رواية «التابع» في عالم غير محدد الزمان ولا المكان، وبطلها فتى يعيش في حالة من الحيرة وعدم الفهم تجاه شخصيتين تحيطان به: الجد وشادية. الجد يريده أن يبقى في الكوخ الذي يعيشون فيه، ومعهم الجدّة، وإلا نالت منه الغيلان التي تعيش في الغابة وتنتظر خروجه، بينما شادية تحثه باستمرار على التمرد والخروج معها إلى الغابة.

براءة البطل وسذاجته سببهما أنه، حسب ما أخبره الجد، نام وهو في الخامسة من عمره، ولم يستيقظ طوال ثلاثين عاماً. وعندما استيقظ بدأ الجدّ في تعليمه وإفهامه كل شيء ومحاولة تشكيل عالمه، إلا أن شادية كانت تقف للجدّ بالمرصاد كالشوكة في الحلق، وتشكك الفتى في كل ما يقوله له.

يدوّن الفتى دروس الجدّ له ووصاياه في دفتر أبيض، تحت إشراف الجدّ، لكنّه سراً، وبنصيحة من شادية، يدوّن أفكاره وما يحدث له في دفتر أحمر، يخبئه بعيداً عن الجدّ، إلى أن يهرب من الكوخ ويعيش في الغابة، ويكتشف هناك طفولته من جديد، ويمتزج بالطبيعة.

تتخذ الرواية صورة حكايات الأطفال كشكل فني لها، ورغم ذلك فأسلوب السرد متطور، فهو يتم من خلال الراوي المخاطب على طول القسمين الأول والثاني، قبل أن يتحوّل لسبب فني إلى الراوي المتكلم في القسم الثالث، وتطرح الرواية فكرة أن هناك من يحاولون دوماً تقييدنا بأفكارهم وفرضها علينا، ولن ننجو ونتحرر إلا لو استعدنا طفولتنا وعدنا إلى الطبيعة البكر.

أما الاسم فيبين عبد المجيد أنه عانى كثيراً في اختيار الاسم، واستعان بالكثير من الأصدقاء إلى أن استقرّ به الأمر على اسم «التابع». السبب في ذلك أن الرواية تشتمل على أكثر من محور، وأحد هذه المحاور هو فكرة التبعية، التبعية لفكرة أو شخص، ومسخ المرء لهويّته في سبيل ذلك. ومن هنا كان دافعه لكتابة الرواية.