لا يخفي الكاتب الأميركي بول أوستر ما للمراحل الأولى من حياة الإنسان من تشكيل مساره الذي سيسير عليه، كما لا يخفي أنه من الصعب بمكان أن يعبِّر الإنسان عن حقيقة نفسه، وذلك لسبب بسيط هو أنّه ما من أحد يمكنه أن يصل إلى ذاته؛ فقد نتظاهر بأن في وسعنا أن ندرك حقيقة أنفسنا، وتلك خديعة، فنحن في بعض الأوقات ندرك من نكون، ولكننا في النهاية لا نستطيع التيقن، ومع استمرار حياتنا فإننا نصبح أكثر غموضاً بالنسبة إلى أنفسنا، ونغدو أكثر وعياً بعدم تماسكنا.

ولطالما أكد أنه «لا يعرف أكثر من أنها كانت مجرد فكرة حيَّرت عقله وشغلته طوال حياته. كل تلك الفرضيات التي تطاردنا والحيوات المتخيلة التي تحتل عقولنا وتسير متوازيةً مع وجودنا الفعلي».. موضحاً أنها «مجرد أطياف لحيوات أخرى محتملة، وميتات كذلك». هكذا نجد أن أوستر يؤمن بأن تلك الأفكار تمتلك القوة الخارقة التي زوَّدته بالقدرة التي دفعته إلى كتابة رواية (4321).

يتحدث بول إلى «الغارديان» اللندنية من منزله في بروكلين مبدياً عدم معرفته حتى ذلك الوقت، ما إذا كان أحد قد وضع رواية بتلك الصيغة.

ويحاول إقامة المقارنات فيستذكر «حياة بعد أخرى» للروائية كايت أتكينسون، ويذكر فيلماً للمخرج البولندي كريستوف كيشلوفسكي، لكنه لا يقتنع بصحة المقارنة. ويتابع معترفاً بالقول: «لم أعرف بدايةً كم شخصيةً لفيرغوسون أردت أن أرسم. لكني أدركت فقط أنها فكرة احتلت تفكيري طوال حياتي» كما يشير إلى أن الكتابة تمنحه حياة أخرى.

تزامن نشر رواية «4321» مع عيد ميلاد أوستر السبعين، ويعتبرها «العمل الأعظم الذي أنجزه في حياته» ويصفها قائلاً: «إنها بحجم فيل، لكني آمل أن يكون فيلاً عدّاءً».

ولا يعود ذلك حسب قوله إلى وقوع الرواية في 900 صفحة، أي ثلاثة أضعاف أي من الروايات الست عشرة التي وضعها سابقاً، لكنه على قناعة، من حيث السمعة بأن «الرواية ستطغى على كل شيء. أشعر بأني انتظرت طوال حياتي لأكتب هذه الرواية.

كنت أضع المداميك كل تلك السنوات». بدت الكتابة أمراً ملحاً لأوستر، فاستوطن مستودع المنزل حسب قوله؛ «قبعت في الأسفل داخل المخزن، وعملت سبعة أيام متتالية في الأسبوع. كنت أريد أن أعيش لأكمل الرواية».

يتوقف أوستر عن الحديث للحظة يسحب فيها من سيجارته الإلكترونية نفساً بعد أن أقلع قبل عامين عن تدخين السيجار المتواصل الذي أعطى صوته خشونة معبّرة يصفها بحفّ قطعة ورق الزجاج على سقف خشن كثير الحصى.

ويتابع كلامه قائلاً: «شرعت في كتابة الرواية وأنا في السادسة والستين من العمر، أي العام الذي سقط فيه والدي ميتاً بذبحة قلبية مفاجئة. وما إن تخطيت ذاك الحاجز حتى بدأت أعيش في عالم مخيف، أستقر فيه الآن، بعد أن تملّكني بدايةً هاجس الموت المفاجئ».

شكّل حضور أوستر نجوميةً على ساحة الأدب العالمي لعقود طوال، منذ ظهور «ثلاثية نيويورك» في منتصف الثمانينيات التي رسخته كاتباً معاصراً متمكن من تقديم حبكات متسارعة الوتيرة مع مسحة من الوجودية والنظرية الأدبية. ونجح في تقديم مذهب عقلاني بأناقة وقابلية وصول جعلته المثال الأفضل لمؤلف طليعي عثر على جمهور عريض.

مشاهد لا تنسى

لم يتخط أوستر بحسب اعترافاته حادثةً إصابته وهو بعد في سن المراهقة حين صعق البرق صديقاً له وأرداه قتيلاً: «إنها مسألة لم أتمكن من تخطيها» ويروي التفاصيل قائلاً: «لقد كنا حوالي 20 ولداً في مخيم صيفي احتجزتنا عاصفة رعدية في قلب الغابة. وأشار أحدهم بوجوب التقدم إلى مساحة مفتوحة وكان علينا أن نزحف مروراً تحت سياج شائك وكنت قريباً جداً إليه ورأسي بالقرب من قدميه».

لم يدرك أوستر أن الولد قد مات على الفور وأضاف: «سحبته إلى بقعة خالية وبقيت طوال ساعة كاملة تحت زخ المطر الكثيف والصاعقات الرعدية أمسك بلسان الولد خوفاً عليه من أن يبتلعه. ولدان أو ثلاثة من حوله كانوا مصعوقين يتأوهون: كان الأمر أشبه بمشهد حرب، وشيئاً فشيئاً كان وجه الولد يتحول إلى أزرق وكانت عيناه مغمضتين نصفياً لا يبدو منها إلا البياض».

واستغرق أوستر بعض الوقت ليدرك أن الصاعقة لو تأخرت قليلاً لكانت قتلته هو. وأضاف: «لطالما طاردني طيف ما حدث، بعبثيته التامة، أعتقد أنه كان اليوم الأهم في حياتي».

خيال متَّقد

حادثة مماثلة تصيب بطل رواية «4321» الأخيرة التي اندرجت ضمن القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» العام الماضي. آرتشي فيرغوسون ذو الأعوام الثلاثة عشر ولد مليئاً بالحياة والأمل، يركض تحت شجرة أثناء العاصفة في مخيم صيفي، ويشاء القدر أن تضرب صاعقة رعدية جذع شجرة يسقط عليه ويقتله، «وفيما كانت جثته الهامدة ممددة على الأرض المبتلة بمياه الأمطار، ظل الرعد يقصف، وظلت الأصوات صامتة في أصقاع الدنيا».

لكن ذلك كان واحداً من أقدار شخصيات آرتشي فيرغوسون الأربع في الرواية، إذ لطالما سبر خيال أوستر لحظات تتخذ فيها الحيوات بفضل الحظ والظروف اتجاهات مختلفة. وتجلت الفكرة بأنقى معانيها وأخلصها في رواية «4321».

وربما تلخِّص تجربتَه كاملةً جملتُه التي قال فيها: «لقد كنت أبني للوصول إلى ذلك في كتابي الجديد. وشعرت بتحرر معين في كتابة جملة تمتد على ثلاث صفحات، وتخلق حقلاً متفجراً من الطاقة».

إنه على الأرجح «الجوع للكتابة» بحسب أوستر، «للمضي قدماً» حتى لو أبت الجمل الجيدة المجيء. «إنهما التشويق والنضال اللذان يمداني بالقوة والحيوية. أشعر بأنني أكثر حياةً وأنا أكتب».

«4321».. ذوات متعددة في جسد واحد

آخر ما يمكن أن تتوقعه من بول أوستر كتابة رواية اجتماعية واقعية بمنظور بانورامي ديكنزي الطابع، لاسيما أنه كاتب يشتهر بالاقتضاب والتماهي مع الحداثة الأوروبية، والألاعيب والمكر والحيلة، لكنه يعترف أنه في «4321» «استعار بعض الأشياء من حياته الخاصة، وأي روائي لم يفعل؟».

فيرغوسون ليس بطل حياة واحدة وحسب، بل مجموعة حيوات ينهار على أعتابها كل وهم عن قصة رواية واحدة. حتى الذين تأخذهم البداية السريعة لقصة تمتد على 900 صفحة سيفقهون سريعاً منطقها السردي، فمنذ البداية، تنقسم حياة بطل الرواية، كطفل وحيد لستانلي وروز فيرغوسون ولد عام 1947 رباعياً، وتسير ذواته الأربع عبر طرق منفصلة لكل تجاربها الخاصة في مراحل الطفولة والمراهقة والصداقة والحب والرياضة والمدرسة، أما الوالدان فحياتهما تنقسم على أربع كذلك مع الحفاظ على مهنة الأب رجل أعمال والأم مصورة فوتوغرافية.

وفي السياق عينه تؤدي الشخصيات الأساسية في حياة فيرغوسون، لاسيما ابنة عمه وصديقته آمي، أدواراً وشخصيات مختلفة.

وبالرغم من التعقيد البنيوي للقصة، فإن فذلكتها بسيطة، حيث تتكرر مشاهد الطرق المتقاطعة والمتفرعة، لكن المنطق يغدو بيناً في الصفحات الأخيرة، يتجلى في كلام فيرغوسون الرابع الذي يكون قد بلغ سن العشرين وقتها، حيث يقول: «تمثل عذاب الحياة في جسد واحد في تلك اللحظة بضرورة اتخاذ طريق قسرية وحيدة، على الرغم من إمكانية السير على درب مغاير، والذهاب نحو وجهة مختلفة بالكامل»، وحده الخيال أو الاستنساخ يستطيع الالتفاف على تلك القيود.

وهكذا تدور الرواية حول «أربعة أشخاص مختلفين لكن متشابهين يحملون جميعاً اسم فيرغوسون».

تفاصيل تاريخية

على الرغم من تردد أصداء من حياة أوستر عبر النص، فإن الثقل الخالص للتفاصيل التاريخية يشكل خط الدفاع بوجه نزعة الأنا، بدءاً من الحرب الباردة إلى اغتيال جون كيندي ومارتن لوثر كينغ ووثيقة فيتنام ومجزرة ماي لاي، في عرض روائي كامل العناية بالتفاصيل.

وتنعكس الإحاطة الجديدة في الجمل التي تنساب سريعةً مترددة في التوقف. أما العلاقة بين الخاص والعام فتثار من خلال صورة الدوائر المتركزة.

وتعود جذور تصور أوستر عن هشاشة الحياة إلى تجربته الخاصة، إذ عاين في أحد المخيمات الصيفية وهو في الرابعة عشرة من العمر مقتل صبي آخر لم يكن يبعد عنه سوى بضع سنتيمترات قتلته صاعقة رعدية.

وتنخرط الذوات المتعددة في عدد من الأحداث الدرامية، وتحل فترة يبدو أن فيرغوسون كان ينظر فيها إلى الزخم السردي على أنه جريمة بحق موجبات القص الـ«ماورائي»، لكن تلك ليست القضية هنا، حيث القارئ مدفوع لأن يسير مع التيار.

تذكر صعب

ما إن تتوقف عن القراءة وتبتعد عن الرواية قليلاً سيصعب عليك تذكر أي فيرغوسون كان الأول الثاني الثالث أو الرابع. من منهم كسر ذراعه حين وقع عن الشجرة، ومن فقد أصابعه في حادث سيارة، أو أطلق جريدة وهو لا يزال في المدرسة، أو خاض أول علاقة غرامية يوم مقتل كيندي، أو علق في مصعد.

أثناء القراءة سيكون القارئ مغموراً ومأخوذاً، لكن من الصعب أن يكبح السؤال عن شعور بالفرصة المفقودة. فإذا كان أوستر قد قرر اختراع أربع حيوات مختلفة، فلماذا جاءت الانشغالات متكررة تتمحور حول الرياضة والأفلام وباريس، وتتبع مسار امتهان الكتابة؟