بعدما تكرر رفض روايتها الخامسة من قبل عدد من دور النشر بسبب ما أسماه البعض «المبالغة في مواصفاتها الأدبية» ظهرت رواية الكاتبة البريطانية «ديبورا ليفي» التي أطلقت عليها عنوان «السباحة إلى البيت» في القائمة القصيرة لجائزة «مان بوكر» لسنة 2012، إثر ترشيحها من قبل إحدى دور النشر المتواضعة، كما رشحت روايتها «حليب ساخن» لنفس الجائزة لعام 2016، في حين ظلت روايتها الأولى في لائحة الأعمال التي تعيد دار «بنجوين» الشهيرة نشرها.

أما الجزء الأول من كتاب السيرة «شبه الذاتية»، وهو عبارة عن تأملات في الكتابة والجندر، ويحمل اسم «أشياء لا أريد أن أعرفها»، فتأتي تكملته في الجزء الثاني الذي تصفه بأنه «سيرة حياة» تدور تفاصيلها حول طفولتها في «جنوب أفريقيا»، وهي سيرة ترصد.

كما توضح الكاتبة في أحد الحوارت معها، أخيراً، حياة والدها الذي دخل السجن بسبب انتمائه السياسي، وحياتها الشخصية في مرحلة الطفولة في ما تسميه «المنفى» في «إنجلترا». في حين يستأنف الجزء الثاني من هذه السيرة وعنوانه «ثمن الحياة» الصادر عن دار «هاميش هاملتون» جملة من التأملات في الفن والهوية والفلسفة، إلى جانب بدئها لحياة جديدة بعد انفصالها عن زوجها. وقد أوضحت الكاتبة في الحوار أنها على قناعة بأن المرأة، خاصة المثقفة، جديرة وأهل لإحداث تغييرات حقيقية، نوعية، في حياتنا.

سيرة ذاتية

ما الذي تعنينه هنا بعبارة «سيرة حياة»؟

إنني أكتب في الواقع ثلاث سير ذاتية مقسمة كالآتي: في كتاب «أشياء لا أريد أن أعرفها» تحدثت عن حياتي في الأربعين، بينما تدور محاور كتاب «ثمن الحياة» حول تفاصيل من حياتي في سن الخمسين، وأما الكتاب الثالث فسيكون حول حياتي في الستين، وهو ما لم أصل إليه بعد، ولا أعرف ما سيحتويه من تفاصيل.

إن التفاصيل التي تتضمنها هذه السنوات من عمري تقع في دائرة التفاصيل غير الموثقة من تجربتي كامرأة، وقد تصورت أنه من الممتع أن يطلع عليها الآخرون ليعرفوا ما الذي تشتمل عليه وما الذي تكشف عنه. في الحقيقة، أنا أتصور دائماً أن أعمالاً مثل السيرة الذاتية ينبغي أن تكتب في نهاية العمر، وقد تساءلت كثيراً عما يمكن أن تكون عليه هذه الأعمال لو كتبتها بينما أنت لا تزال على قيد الحياة!

في بحثك الجديد الذي يحمل عنوان «إطلالة على حديقة أحد الأصدقاء» قلت: «من هناك، سأبدأ الكتابة بضمير المتكلم، مستخدمة «أنا» التي هي قريبة وليست قريبة إلى نفسي. ما الذي تعنينه بذلك؟
على الرغم من أن الأنا التي تظهر في سيرتي هي أنا ذاتها، إلا أنه ينبغي لكم أن تتخيلوا شخصية تستطيع التحدث مثلي تماماً عندما أتحدث عن أي شخصية أخرى في الرواية؛ أنتم تفعلون هذا عندما تقرأون أي أعمال أخرى غير روائية، وعلى العموم فإن الأمر يبدو لي متشابهاً.

سبق وأن وصفت إحدى مراجعات الكتب كتابك «أشياء لا أريد أن أعرفها» بأنه إعادة كتابة نسوية لما تضمنته مقالة كتبها «جورج أورويل» تحت عنوان «لماذا أكتب كمنصة لتأملاتك في الكتابة» وأنا أسألك هنا: ما هي الأشياء المؤثرة والملهمة في هذا الجزء الثاني؟

هناك أشياء كثيرة في الواقع. إنني أناقش «لويس بورخيس» و«باربرا هيبورث» والأشكال التي كتبا بها وإبداعهما في مراحل مختلفة، في حين أن «مارجريت دوراس» يأتي ذكرها في كلا الجزأين لأنها مخلصة جداً في إبداعها، كما أنها تكتب بموضوعية شديدة وذكاء.

كذلك لو تلاحظين فإن «راكيل كسك» تتناول في أعمالها الاختلاف ما بين السيرة والرواية. وهي مثلك أيضاً في المذكرات التي نشرتها في سنة 2012 «العقابيل» فهي تتحدث عن زواجها الفاشل وآثاره، ألا تشعرين بالقلق تجاه الكتابة عن الأمور الشخصية ذاتها؟

الحقيقة لا ينبغي لأي رجل أن يطرح هذا السؤال! لأن هذا الكتاب لا يناقش قصة زواج فاشل، إنه يتحدث عن بداية حياة أخرى، وهو خليط يمزج ما بين أدب الرحلات، و»الجندر» والسياسة؛ وموضوعه يدور حول بحث الراوية عن شخصية نسائية رئيسية يمكنها أن تحيا حياة شخصية أقل ضيقاً مما هو متاح لها، والخلاصة أنه ليس كتاباً يتحدث عن الرجل ولا حتى عن الزواج، إنه يدور حول تأسيس حياة.
وصفت كلاً من الحب الحقيقي والأنوثة بأن كليهما «سراب»، فهل تشعرين حقاً بأنهما ضرب من الوهم؟

إنني في الواقع أسعى جاهدة إلى الخروج من إطار تلك الشخصية النسائية التقليدية البائدة التي يكتب عنها الرجال للنساء، وهي شخصية من صفاتها تحمل المعاناة والصبر والتضحية، لماذا لا نبحث عن نموذج آخر وننأى بأنفسنا عن هذا النموذج الممل المكرر. كتابي في الحقيقة بحث عن حياة أكثر حرية بكل ما يعنيه ذلك، وما توصلت إليه هو عبارة عن بحث يشترك فيه كل من الرجل والمرأة، إنه بحث بلا توقف.

كتابك يبدأ وينتهي بنوادر تحكينها عن نساء ليس لديهن خبرة في الحياة، فلا يهتم أحد بالاستماع إلى ما يقلن أو هن من طبقة اجتماعية دونية، فلماذا إذاً تضمن كتابك هذه التفاصيل؟

ما أردت قوله بالضبط هو أن العالم الذي نعيش فيه هو أيضاً عالمها، من حقها، وقد استخدمت هذه النماذج لكي أضفي على الفكرة نوعاً من الدراماتيكية..إن المرأة المثقفة مؤهلة وبجدارة لتحدث تغييراً نوعياً في عالمنا.

هل أنت متفائلة بأنه ما زالت هنالك أدوار إيجابية سيلعبها الجيل الجديد من النساء في المستقبل؟ بمعنى أنهن سيكنَّ قادرات على القيام بأدوار «رئيسية» بسهولة؟

بالتأكيد، أنا في الواقع معجبة كثيراً بالجيل الجديد من بناتنا الشابات، أعتقد أنهن سيغيرن العالم.

لقد قلت: إن حياتك خلال تلك الفترة -وأستعير لك هنا الوصف الذي ورد على لسان الكاتبة الإيطالية إلينا فيرانتي- «كانت سعيدة وغير سعيدة» في آن، أما أنت فعبَّرتِ عنها بقولك: «إلا أن حياتي كانت سعيدة وتعيسة إلى أقصى حدود التعاسة».. أما زلت تشعرين بها كذلك؟

في الحقيقة نحن جميعاً حياتنا هكذا، وبالتالي فلا أحد يستثنى من هذه التجربة، وكما أشار إليها «فرويد»: من الجميل أن نغير مشاعرنا من التعيسة إلى العادية.

«ثمن الحياة».. تناقضات تعانيها المجتمعات الحديثة

بجمال وشفافية تصف الكاتبة البريطانية ديبورا ليفي تجارب مؤلمة في الحياة، كانفصالها عن زوجها ووفاة والدتها، وذلك في كتابها الجديد «ثمن الحياة» الصادر أخيراً عن دار هاميش هاملتون، بريطانيا. ويشار هنا إلى أن ما يلفت نظر القارئ في هذه السيرة الذاتية ليس الموضوع الذي كتبت عنه عدة مؤلفات سابقاً بامتياز، ولكن ليفي تبدو أكثر قدرة على وصف موقفها كامرأة ترغب في المزيد من الحرية، بعدما أصبحت حياتها تتجاوز مفهوم النسوية في مراحلها السابقة التي شهدتها خلال القرن العشرين.

وبالإشارة إلى أفكار نساء أخريات ألهمنها كسيمون دو بوفوار، تصف ليفي مشاعرها على نحو أكثر قوة من الأخريات بالاعتماد على جمل وعبارات حادة ومرهفة في الوقت ذاته، ومفردات ترسم فيها صور أشخاص مقربين وغير مقربين؛ منهم والدتها وجيرانها الجدد.

وبينما هي في قمة تمردها، تبحث عن حياة جديدة، نشعر بأنه ربما كانت هناك إشارة إلى أفكار نساء أخريات ربما ألهمنها؛ منهن الكاتبة والمفكرة والمنظرة الاجتماعية الفرنسية سيمون دو بوفوار، إحدى أهم ناشطات حركة تحرير المرأة الفرنسية، لكي نسترجع دو بوفوار في هذه العبارة المقتبسة التي تقول فيها ليفي: «إنها قصة كل امرأة عبر التاريخ، كل امرأة امتدت عواطفها، حبها، تفانيها من أجل أسرتها لكي تكتشف في النهاية أنها لم تكن إلا خادمة مخلصة، تلبي رغبات كل من يحتاج إلى المساعدة باستثناء نفسها».

ومن جملة ما يسترعي انتباه القارئ كذلك في كتاب «ثمن الحياة»، أن ليفي تحاول استمالة مشاعر الآخرين قدر المستطاع لكي يقفوا في صفها، بأسلوب مؤثر تميزت به سيرتها التي تعطي انطباعاً عن معاناة امرأة، كاتبة وأم، وليس هذا فحسب، بل بوصفها منظرة (ربما كما تشعر) من منظرات مرحلة ما «بعد النسوية».

كما أن القارئ للكتاب يجد انطباعاً آخر عن التناقضات الاجتماعية والثقافية التي تعاني منها المجتمعات الحديثة. وقد يتساءل القارئ: كيف تستطيع امرأة منهكة تخطَّت مرحلة ما بعد منتصف العمر مغادرة منزل الزوجية، لا لشيء سوى أن تنعم -كما تكرر في سيرتها- بنفس المستوى من الحرية التي ينعم بها الرجل.

يرى الكثير من النقاد أن ديبورا ليفي منذ توقفها عن الكتابة ثم عودتها بعد خمس عشرة سنة، قد بدأت تشق طريقها بقوة في مجال الكتابة، وعلى نحو مختلف، وربما كان تاريخ ذلك يعود إلى كتابها «السباحة إلى البيت» الذي رشح لجائزة «مان بوكر» البريطانية في عام 2012 ثم نشرها مجموعة «الفودكا السوداء» القصصية سنة 2013، على الرغم من أن أهم ما يميز إنجازها الإبداعي بوجه عام مازال هو الكتابة عن المنفى.

إضاءة

ديبورا ليفي، كاتبة مسرحية وروائية وشاعرة بريطانية، من مواليد جنوب أفريقيا. درست الفنون المسرحية في كلية «دارتنغتون» للفنون، بريطانيا. كتبت في عدة صحف بريطانية كبرى، وعملت زميلة في كلية الفنون، كامبردج.

من أعمالها المسرحية «ملف بي»، «هوني بيبي»، «مجموعة الأعمال المسرحية». من دواوينها الشعرية «خطاب غزلي في ضواحي الجحيم». ومن مؤلفاتها الروائية «تحولات جميلة»، «جغرافيا الابتلاع»، ومن مقالاتها الشهيرة «أشياء لا أريد معرفتها».