يرى الشاعر المغربي طه عدنان أن لجوء كثيرين من الشعراء إلى قصيدة النثر أمراً غير مبرر، معتبراً أن الشعر اليوم، وبعد تحرره الكامل من كل القواعد والإكراهات الفنية، بات يخفت داخل القصيدة، وأن الكم الهائل من القصائد المنثورة هنا وهناك لا يمت معظمه بصلة حتى إلى قصيدة النثر ذاتها. وثمن في حواره مع «بيان الكتب» أهمية تعايش المبدع في مجتمعات غير التي ينحدر منها، مبرراً ذلك بأن الغربة تحرر المبدع من وطأة الكثير من القيود، وتجعله لا يطمئن إلى الأحكام الجاهزة.
بوصفك شاعراً مغربياً جربت الاغتراب من خلال إقامتك في بلجيكا، برأيك، كيف يؤثر الاغتراب على تجربة المبدع؟
لا شك في أن الهجرة أسهمت في تشكيل وعي المغتربين العرب، وكذلك أثرت في الآخر، فمفهوم الآخر عرف تحولات كبيرة من خلال تجربة الهجرة، ولم يعد مواطن الغرب أسيراً لهذه الثنائيات الأولية، التي كانت ما بين مستعمِر ومستعمَر مثلاً.
نحن أمام مقاربات جديدة في موضوع العلاقة بين الأنا والآخر، والمحلي والكوني. كما تتيح الهجرة للمبدع العربي مسافة تمكنه من ممارسة دوره النقدي المزدوج، دور يبقى محفوفاً بمحاذير إعادة صياغة الأحكام الجاهزة والمسبقة في مغازلة سافرة لأفق الانتظار الغربي، طلباً للترجمة وناشداً للترويج، لكن هذا الإبداع يبقى، ثمرة لمعركة المواطنة الثقافية هنا وهناك؛ ويمكن ترسيخه باعتباره أيضاً مكوناً من مكوّنات الأدب متعدّد الثقافات في بلدان الاستقبال، فالأدب قيمة إنسانية مشتركة، كما أنه ينقل روح الشعوب ووجدانها أكثر مما يمكن للتقارير الإعلامية أو البحوث الاستراتيجية الموجهة أن تفعل.
عالم جديد
يرى البعض أن الساحة الأوروبية الأدبية والثقافية أكثر انفتاحاً وتوفيراً على الفكر، فهل تعد إقامتك في أوروبا إضافة إلى تجربتك الإبداعية؟
الهجرة أفادتني على مستوى اكتشاف ضآلة وجودي الشخصي. وفتحت لي آفاقاً أرحب للانتماء الشاسع إلى هذا العالم. الهجرة تجعلنا نحس بأننا جزء صغير من كل متشعب، حينها فقط يمكننا التحرر من وطأة الانتماءات الخالصة وطمأنينة الأحكام الجاهزة، لنجد أنفسنا نتفاوض مع عالم جديد ومناخات ثقافية جديدة. نوع من الحوار الواقعي الذي لا يبقى معه الحوار مجرد رياضة ذهنية، إنه مسار يومي متعدّد الأبعاد، له منطلقات فكرية ومعرفية حتماً، لكن أيضاً نتائج عملية ملموسة تختبر عملياً إمكانات التقارب الفعلي مع الآخر. هذا الحوار الإبداعي ممكن وضروري للخروج من منطق حماية الهوية الخالصة إلى منطق صياغة هويات متعدّدة قابلة للاغتناء كل يوم بما يوفره الإنسان من انتصارات باهرة على المسافات والحدود بفضل الهجرة أولاً، ثم الترجمة والتكنولوجيا وغيرها من أسباب التواصل الحديثة.
بساطة
في ديوانك «بسمتك أحلى من العلم الوطني» نستشعر لمحة درويشية، (نسبة إلى محمود درويش)، فهل تجد معه قواسم مشتركة؟
لا أعتقد ذلك، ولكن لا أحد يكتب قصيدته من فراغ، فالقصيدة تُكتب انطلاقاً من مخزون القراءات الأولى وتراكمات الذاكرة. وأنا مدين بقصيدتي لقراءاتي في الموروث الشعري العربي، منذ امرؤ القيس مروراً بالمتنبي ومحمود درويش وأدونيس وغيرهم من الشعراء العرب والأجانب، إلى غاية ما ينشره اليوم أصدقائي من الشعراء على صفحات الجرائد والمجلات أو يعلّقونه على جدرانهم الفيسبوكية.
يمتاز شعرك بالبساطة والمكاشفة والصبغة الإنسانية، فما منابع إلهامك؟
لا أسلم بحكاية الإلهام، إذ لا إلهام هناك بالمعنى الهلامي للكلمة. هناك تفاوض يومي مع الذاكرة والمقروء ومفردات العيش، تفاوض عسير يلزمه الكثير من المكابدة مع النص عسى أن يحالفه الشعر، وأعتقد أن التجربة الإنسانية مصدر ثري للإبداع، ورغم أن الإبداع الشعري فعل ذاتي خالص، إلا أنه يبقى غير منفصل عن المحيط ولا عن السياق العام الذي أنتجه. لذا، يصعب على الشاعر أن ينكفئ تماماً على ذاته، مهما تضخمت هذه الأخيرة، ليصبح محور العالم في نصوصه وينشغل بأشيائه الصغيرة وحسب، لأنها ليست بالضرورة موضوعاً شعرياً شاملاً، فاحتكاك الذات بالآخر هو مصدر التوتر الوجودي الذي يشكل مادة الشعر.
وقوة الشعر تكمن في الارتقاء بهذه المشاعر الذاتية إلى مستوى السؤال الوجودي. إنها قوة فعل الخلق الفردي داخل المحيط الاجتماعي، فالشعر هو هذا التعبير الداخلي عن الذات باعتبارها كينونة جماعية، دون السقوط في وهم اختزال العالم في ذات الشاعر باعتباره شخصاً متقدماً على مجتمعه، يمارس الإبداع بنبوئية متعالية. شخصياً، أميل إلى القصيدة التي تحتكّ بالواقع وتعبر عن حيرة الكائن وهشاشته تحت وطأة اللحظة الجماعية بكامل توتراتها.
مغايرة
التجريب سمة الأدب والإبداع بصورة عامة، فهل ستجرب القصيدة النثرية رغم انتقادك لها؟
الإبداع هو تجريب بالضرورة، وسعي للمغايرة في القول الشعري، مواكبةً لتقلبات الذات وتحوّلات العصر، لكنني لا أعد نفسي معنياً بالتجريب في إطار ما يسمى «قصيدة النثر».
وربما كان من حسن حظّ المغاربة أن أنسي الحاج ليس منهم، فرغم أنهم من أدرى العرب بالعمّة سوزان برنار، وتنظيراتها حول قصيدة النثر منذ بودلير إلى اليوم، إلا أنهم لم يفرزوا على حدّ علمي شاعراً واحداً ادّعى الرّيادة في هذا الصنف، بل وحتى الذين كتبوا قصائد نثر، وأبدعوا فيها لم ينتبهوا يوماً إلى ذلك.
ولا أعتقد أنه يمكن لشاعر عربي، حتى ولو كان شاعر قصيدة نثر، أن يكتب دون أن يكون ملماً بالموروث الشعري والفني العربي، وإلا سيكون حاله كحال من لم يسبق له أن رسم قطاً في حياته ويريد أن يصير بضربة فرشاة فناناً تجريدياً.
فالشعر اليوم، ربما بسبب التحرّر الكامل من كل القواعد والإكراهات الفنية، بات يخفت داخل القصيدة. هكذا أصبحنا، بفضل الإنترنت، ننتج كماً هائلاً من القصائد المنثورة هنا وهناك، قصائد لا يمت معظمها إلى القصيدة، ولا حتى إلى قصيدة النثر، بصلة، إنه نثر بلا قصيدة.
حوار عميق
أشرتَ إلى الإبداع المنشور في مواقع التواصل الاجتماعي، فكيف تقيّم حضورها في الترويج للمبدع؟
بقدر ما تتيح هذه المواقع للناس فرصاً هائلة للتعبير الفردي الحرّ والتواصل المستمر مع الآخر، فأيضاً يتيه في ردهاتها الحوار العميق الهادئ، ليعلو «اللغط والزعيق». لذا، عندما أقرأ شعراً على الفيسبوك أفرح بذلك، فالشعر، والأدب عموماً، له هذه القدرة على ترسيخ القناعات الحرة والمستقلة للأفراد ضمن خطاب منتج للمعنى الجماعي والقيم المشتركة.
الفيسبوك يسهم في تعزيز فرص التعبير وفتح مجالات الإبداع أمام الجميع، وهذا شيء إيجابي، لكن لا شيء يعادل كتاباً شعرياً تقرأه لتحيط بالعالم الشعري لصاحبه، ولو أن هناك من الشعراء الجدد من قرر الاكتفاء بالنشر الفيسبوكي، ربما لأنه استَعْذَب اللايكات وإطراءات المجاملة التي يحملها على محمل النقد، أو ربما تهيباً من إصدار ديوان شعري في ظلّ واقع النشر الذي يستخفّ بالشعر.
لكنّ مشكلتنا الرئيسة قائمة في التعصّب الذي يتجاوز لدينا المعتقد الديني والمذهبي والسياسي ليطال حتى الاختيارات الفنية والجمالية، فالانتصار إلى قصيدة التفعيلة لا يتحقّق لدى بعض منّا إلا بمحاربة قصيدة النثر والتنقيص منها، والعكس صحيح. لقد أهدرنا وقتا في حروب طاحنة حول اختلافات فنية عادية، بل ومشروعة، فالأصل في الإبداع التعدّد، ولا يمكن لشكل فني إلغاء الآخر، إذ في الشعر متسع للجميع، وهو قادر على استيعاب مختلف المضامين والصيغ التعبيرية.
هذه المغالاة في الاصطفاف أصبحت تشمل حتى الوسائط، إذ أصبح لدينا من يغالي في ذم الفيسبوك، وفي المقابل هناك من يغالي في مدحه، بل ويعتنقه كما لو كان عقيدة.
لقد فتحت عيني أدبياً على نقاشات لا نهائية عن الشعر والحداثة، نقاشات أيديولوجية في جوهرها ضيّعت الشعر دون أن تنتصر الحداثة؛ لذا لست متحمّساً اليوم للانزلاق إلى نقاشات مغلوطة من عيار الشعر والفيسبوك. هكذا سنضيّع الشعر، فيما يبقى مارك زوكربيرغ المنتصر الوحيد!
سياقات
مع تصاعد وتيرة الأزمات في المنطقة العربية، كيف ترى الشعر الموجّه إلى الأوطان؟
إلى جانب الشرط النفسي، ما أكتبه يبقى محكوماً حتماً بالسياقات الاجتماعية والتاريخية التي تنتجه. إنه نوع من التأريخ الشعري للرّاهن؛ فالقصيدة محاولة للاشتباك مع قضايا المجتمع والتفاعل مع الأحداث في تعقيدها، في سبيل شعرنة الألم الفردي والجماعي باعتباره ألماً إنسانياً، فالشعر أيضاً موقف من العالم، وهو بهذا المعنى سلطة حرّة قائمة بذاتها لها إرادتها المستقلة، وعليها أن تلبّي نداء الكتابة وتنطق بحكم ما حيال ما يجري دونما إكراه من حزب أو قبيلة أو مذهب، إنّها سلطة الفرد الجمعي.
فقط، على الشاعر أن يمارس هذه السلطة الفريدة بترفّع عن الحدث الظرفي الطارئ ليرتقي به إلى زمن الشعر اللانهائي ومصافّ الحالة الإنسانية. هكذا، يمكن للشعر أن ينتج رؤية مرتبطة بقضايا المجتمع، بشرط أن تظلّ شعرية بالأساس، ومخففة من النبرة الخطابية المباشرة المنتجة لليقين.
«بسمتك أحلى..» قصائد مثقلة بالحب والهموم الإنسانية
يقدم الشاعر طه عدنان، في ديوانه الشعري «بسمتك أحلى..»، الصادر عن دار منشورات المتوسط، 14 قصيدة متنوعة ومتوسطة الحجم، جميعها موقعة بمستقره الحالي في العاصمة البلجيكية بروكسل، ومؤرخة بالفترة الممتدة بين فبراير 2011 وحتى سبتمبر 2015. يستهل الشاعر ديوانه بقصائد عن الحب تقارب ما بين المغازلة واللهفة والغربة والرغبة وغيرها، من المعاني المتباينة التي استطاعت وصف الحب في رؤية معاصرة خاصة، إلا أن عدنان لا يبدو أنه يتوقف فيه عند حدود الحب، وإنما يذهب بعيداً فيه، ليتوغل في الهموم الإنسانية، وأزمات العالم العربي، وما يمر به من صعوبات وضغوط على مر العقود الماضية، والتي تفاقمت مع ثورات الربيع العربي التي أفرزت فكراً جديداً، عبّر عنه عدنان بطريقته الشعرية.
مسار الحياة
يحمل الديوان ملمحاً إنسانياً عميقاً، يبرز رؤية الشاعر المغربي عن الإنسانية، حيث الشعور بالاغتراب والصعوبة في البقاء وسط ما يحيط به من ماديات تسيطر على مسار الحياة، وينتهي به الحال دائماً في تساؤل عظيم، لتشير إلى هشاشة الإنسان وصعوبة تأقلمه مع ما حوله من صعوبات، لذا جاء الديوان مثقلاً بالهموم الإنسانية التي يتقاطع فيها الشاعر مع ما هو فردي ومجتمعي أيضاً، حيث ينطق الديوان بقصائد مخففة اللغة والبناء، جملها في الغالب قصيرة رشيقة بصورها، التي تظل مثل فراشات تطير في مخيلة القارئ، بشكل تجعله يقف حائراً في البرزخ، الذي يفصل الفرح عن الألم. وهي باقة من النصوص تضع صوب عينيها جوهر الشعر لا غير، زاهدة في الزخرفات اللغوية الزائدة، تؤلف بين حقيقة صارخة بالمرارة وخيال عذب خفيف، وتحفر عميقا في معنى الإنسان والعالم.
احتفال
في مجموعته الشعرية، يحتفل عدنان بالحياة، حيث تجول قصيدته في فضاءات عديدة، تلتقط صوراً ودقائق يومية، هي في الغالب فضاءات مدينة بروكسل بمقاهيها وساحاتها ومعالمها التاريخية، حيث نجد حركة الشاعر في المدينة البلجيكية حاضرة في ديوانه، فالمكان يلعب دورين: الأول كونه مكانًا في ذاته، والآخر يعبر عن مرتاده وتداخل مشاعره نحوه.
نظرة
القارئ للديوان، يستشعر تجوال عدنان في مختلف مناطق العاصمة البلجيكية، متلمساً الجمال، ومسلطاً صورته الشعرية على تفاصيل الحياة، فنجده أحياناً يدخل مقهى ليلقي بنظرة على الواقع، ويتقمص كل ألوان البؤس والألم الممكنة. وهو ما يبرز عدم تردد الشاعر في التماس كل صيغة ممكنة لتمرير رسالته في عالم لم يعد يُسْمَعُ فيه إلا صوت المدافع، وأنين إنسان مقهور مشتبه حتى في بؤسه.