أكدت الكاتبة السورية ديمة ونوس، أن الكاتب ليس بريئاً مما يكتب، ومن الصعب أن نفصل أنفسنا عن واقع ما نعيشه من خلال كتاباتنا.

وفي حوار خاص مع «البيان» تتحدث ديمة ونوس عن روايتها «الخائفون» المرشحة في القائمة القصيرة لجائزة «البوكر» العربية لهذا العام، عن ذلك الخوف الذي شكل محورها الرئيسي، وعن تقنية السرد التي اعتمدت عليها في «الخائفون»، وعن الكتابة كجزء من الخيال المحفوف بذاكرة متّقدة مهما حاولنا الهرب منها، كما تقول.

تغوص رواية «الخائفون» بعمق في سيكولوجية الخوف... بداية: ما هو الخوف في تصورك الخاص؟

للخوف أسباب كثيرة، ويحمل من المعاني ما تعجز اللغة عن الإحاطة بها. بالنسبة لي، الخوف هو حالة دفاعية تصيب الإنسان أمام ما يعيشه اليوم في عالم يعجّ بالكوارث والمصاعب والإحباطات. إننا نعيش خوفين برأيي؛ ذلك الخوف المنطقي المبني على أحداث جعلت من مستقبلنا نفقاً مظلماً ومجهول العواقب، والخوف الواهم الموروث من المجهول.

وفي هذه الحال يصبح الإنسان عرضة للخطر في أي لحظة. يعيش مهدّداً، مشتبهاً به، مجرماً حتى تثبت براءته، خائناً حتى يثبت العكس. ليس أصعب من أن تجد أجيالاً ولدت في بيوت يقال فيها همساً: للجدران آذان!

وهل يحتفظ الأبطال ومن تسقطين عليهم في الواقع، بخوفٍ، ذي طبيعة خاصة غير مسبوقة، ربما نراه في بعض تفاصيل «الخائفون»؟

نعم، فالخوف يصبح لصيقاً بالإنسان؛ يمشي معه جنباً إلى جنب، حتى إنه يسبقه بخطوات، يحرّك مشاعره، يعبث بما تبقّى له من أمان.

وذلك الخوف العظيم ينمو ويكبر ويطوف ويفيض، فيخرج من منطقة الوعي والمنطق إلى مكان مبهم وخطير تصعب السيطرة عليه. يروح الخوف متجولاً من مكان لآخر، حتى يستقرّ في خوف من الذات! ثم يروح يأخذ أشكالاً أخرى ليصبح شكّاً بالآخرين، شكّاً بالذات وقدرتها على المضي في حياة كئيبة ومظلمة.

تفاؤل

بعد مرور سبع سنوات على الحرب في سوريا، التي عانى خلالها السوريون، هل يظل «الخوف» حاضراً في نفوسهم بعد بلوغ منتهاه، وبعد ما عايشوه كان من الطبيعي أن يتبدد الخوف بعد أن تحقق كل ما يمكن الخوف منه؟ ألا يفترض أن تكون «الثورة» قد كسرت جدار الخوف؟

بالفعل، كسرت الثورة جدار الخوف. فلم يعد ممكناً إسكات تلك الأصوات الشجاعة التي خرجت بصدور عارية لتصرخ للحرية والعدالة. إلا أن الممارسات بحق الشعب السوري الأعزل استبدلت الخوف بمخاوف أخرى. لست متشائمة لأقول إننا محكومون بالخوف، لكن ما يحدث يجعلنا في خوف دائم.

إنه خوف منطقي وليس رهاباً. اليوم، نجحنا في تجاوز المخاوف المبهمة. لم يعد ثمة جدران لها آذان! لكن ثمة طائرات تقصف وأفعال قتل وكراهية تفوح وتنتشر بالأجواء. الخوف اليوم مشروع، وواعٍ.

تراكم

ما الدافع والمحرك الرئيسي الذي دفعك لكتابة «الخائفون».. هل الخوف الذي تولد بعد الأحداث في سوريا، أم الخوف بشكل عام الذي يشعر به الناس وشعروا به قبلاً... ؟

كتبت عن الخوف الذي عشناه في سوريا قبل الأحداث الأخيرة. برأيي هذا ما جعل الناس تخرج إلى الشارع وترفض العودة منه على الرغم من كمية العنف والدمار. عندما يبلغ الخوف ذروته، تصبح العودة مخيفة أكثر من البقاء والتعرّض لخطر الموت أو الاعتقال أو القتل تحت التعذيب. فمن خرجوا يعرفون أنهم لو عادوا هذه المرة، فسيحكم عليهم بالخوف مدى الحياة ربما.

كيف كان وقع كتابة «الخائفون» على نفسك، بخاصة أنها بدت عصرًا دقيقًا للذاكرة وحفرًا عميقًا في النفس ربما كانت له تداعياته النفسية عليكِ ككاتبة.. هل يمكن أن تصفي لنا مشاعرك؟

الكتابة بحدّ ذاتها تفرض عصراً للروح والخيال والذاكرة. فما البال إن كان الخوف هو المحور والبطل! لم تكن الكتابة عن الخوف سوى اختبار لتلك المشاعر ومواجهة قاسية مع ما عشته في بلدي. ذلك الخوف اللعين استطاع التسلّل إلى بيوت لم يعرف أهلها الخوف! كبرت في بيت لا خوف فيه، مع أب وأم لا تنقصهما الشجاعة ولا التمرّد.

إلا أن الطريق بين باب البيت وباب المدرسة، وأبواب بيوت الأصدقاء، محفوف بالخوف. الخوف أكبر من شجاعة والديّ وملايين السوريين الذين دفعوا ثمن جرأتهم وقولهم كلمة الحق. الخوف متجذّر في كل زاوية.. الكتابة عن تلك الذاكرة الطويلة، استنزفتني وعرّضتني لحالات قلق ونوبات هلع، إلا أن استنطاق الذاكرة ينطوي على مواجهة صريحة مع الذات.

ضبابية

سيطرت حالة من عدم عدم اليقين على الكثير من أحداث الرواية؛ فالبطلة ذاتها لا تعرف إن كانت تُحب نسيم أو تتوهم ذلك الحب.. هل انتهت الثورة «يوم رحلوا» أم إن قصتها لم تنته بعد؟ حالة الضبابية تلك هل تعتقدين بكونها انعكاساً «طبيعياً» لـ «الخوف» الذي يستبد بـ «الخائفين» وتجعل الأمور «سواء» أو «غير واضحة» وقد تحمل المعنيين في آن واحد؟

الكآبة تجعل الإحساس بعدم اليقين هو الحقيقة الثابتة والمستقرّة. تلك الضبابية، تولدها الكآبة والوحشة حين تحكمان في أي من المجتمعات.

حيث يصبح الوجود مطرح تساؤل تتنازعه الشكوك ويعلقمه الإحباط. ذلك الوجود الهشّ المعرّض للخطر كل لحظة! واللافت أن ما يهدّد وجودك هو وجودك نفسه. فأنت لو تجرّأت على إثبات وجودك المستقل ستعرّضه للاختفاء أو النفي! ذلك الصراع الوجودي الذي خبرته شخصيا، كما الكثير غيري، ليس أمراً بسيطاً، ويترك في الروح ندباً لا يمكن للزمن أن يمحيها.

ما الذي يمثله «المكان» بالنسبة لكِ؟ وبخاصة دمشق «تلك المدينة التي صارت حزينة مسكونة بالرعب»؟

دمشق لم تصبح كما قلت. أو إنني لا أعرفها اليوم جيداً فلم أستطع زيارتها منذ خمس سنوات. إلا أنني أعتقد أنها كانت دائماً حزينة مسكونة بالخوف. المسافة التي فصلتني عنها، جعلتني أكثر قدرة على تأمّل السنوات التي عشتها هناك. مدينة موحشة، خائفة.. المكان لم يعد يعني لي الكثير. عندما نفقد المكان الأول، نفقد كل الأمكنة. حتى الطائرة تأخذ شكلاً جديداً، تنقلك من اللامكان إلى اللامكان.

علاقة صعبة

ثمة تداخل واضح بين ما هو ذاتي وما هو مُتخيل، بين ما هو خاص وما هو عام.. ما حجم حضور «ديمة ونوس» في الرواية وفي قصة بطلتيها؟ كما أنك حرصتِ على التركيز على «نفسية الأبطال» ومشاعرهم وما يختلج في صدورهم، وجاء اختيار عيادة الطبيب متماشيًا مع ذلك الغرض، فما حضور تلك المشاعر ما بين العام والذاتي الخاص جدًا مثل العلاقة مع الوالد؟

علاقتي بوالدي، الكاتب الراحل سعدالله ونوس، أساسية. تلك العلاقة الصعبة والمعقّدة والغنية، كانت ناقصة! احتضن حياتي وتفاصيلي وأفكاري، ثم تركني دفعة واحدة ينهشني الإحساس بالفقدان. ذلك الفقد المبكّر جعل علاقتي بما يحيط بي، ناقصة. وكأنني اعتدت ألا تكتمل المشاعر وألا تعبرك حتى النهاية. كل ما أعيشه، غير مكتمل وأرى نفسي أنسحب ببطء قبل النهاية والاكتمال.

لم أكتب عنه ولا عني. حتى لو كان يصعب على القارئ تخيّل العكس. الكاتب ليس بريئاً مما يكتب. وذاكرته حاضرة في كل كلمة وكل نظرة. من الصعب أن نفصل أنفسنا عما نعيش وعما نكتب. الكتابة جزء من الخيال المحفوف بذاكرة متّقدة مهما حاولنا الهرب منها أو تفاديها.

«الخائفون» استنطاق للذاكرة ومواجهة صريحة مع الذات

تُشكل رواية «الخائفون»، للروائية السورية ديمة ونوس حفراً عميقاً في سيكولوجية مجتمعية، تغوص من خلاله في أغوار النفس البشرية في حالاتها.

وذلك خاصة في ظل ما عاشه السوريون ويعاصرونه من خوف تراكم وسال حتى فقد معناه. وتركز ونوس في تقنيتها السردية في «الخائفون» على نفسيات أبطالها، تُدقق وتنبش في أدق التفاصيل باعتبار أن «كل الأحداث الكبيرة التي نعيشها تعود لتفصيل صغير هنا وهناك». فتستنطق الذاكرة بما ينطوي على مواجهة صريحة مع الذات ومع منطقة اللاوعي.

لقاء

في عيادة الدكتور «كميل» يلتقي أبطال روايتها، «سُليمى» التي تأتي الأحداث على لسانها، و«سلمى» بطلة رواية غير مكتملة كتبها «نسيم». وما بين «سليمى وسلمى» الكثير من التفاصيل المتشابهة، ربما تكون سلمى التي كتبها نسيم هي سُليمى ذاتها.

تنطوي «الخائفون» على الجمع بين ما هو ذاتي وما هو متخيَّل، بين العام والخاص، والجامع بين هذا وذاك هو «الخوف»، ذلك الخوف الذي قالت عنه: إنه «يأخذ أشكالاً أخرى ليصبح شكّاً بالآخرين، شكّاً بالذات وقدرتها على المضي في حياة كئيبة ومظلمة».

إن حكاية المعاناة في العيادة التي اتخذتها الكاتبة مفتاحاً لأحداث رواياتها، تعكس قصص الشارع الذي يجمع أصناف الناس على اختلاف مشاربهم، تلك الشخصيات التي تمثل سليمى العمود الفقري لها، ومع اتحادهم في الهيئات إلا أن كل واحد منهم يحمل تصنيفاً مختلفاً لحالته عن الآخرين، ليشكلوا بذلك مرآة لمجتمع متصدع، تجمعه الهموم التي تأخذ أشكالاً مختلفة.

وإن اتحدت بعد ذلك نتائجها المعبأة بالآلام والعناءات. وفي ثنايا الرواية يلحظ القارئ سيلاً من المعاناة تتسلسل بين السطور، بين الفينة والأخرى، فلا يكاد يتجاوز بؤساً إلا ويتبعه شقاء.

وتستوقفه صور متلاحقة لأشخاص سكن البؤس وجوههم وأقض الخوف مضاجعهم. فلكل شخصية منها ما يكفيه ويزيد عنه من المنغصات التي أحالت حياتهم جميعاً جحيماً من الخوف والألم الذي لا تعبر الآهات عنه؛ فمن هارب إلى مريض؛ ومن معتقل يكابد الأغلال، إلى أم سرق الفقدان أخاها وزوجها وابنها وابنتها، حتى إن حالها ليدعو إلى العجب:

كم من الصبر قد ألقي على فؤادها حتى غدت صامدة أمام تلك الكوارث التي لا تتحملها حتى الجبال! وفي كل ذلك يبقى غول الموت يلاحق الجميع، وهو يلقي بظلاله عليهم وهمومه، وكأن شبح اقتلاعه لهم سيظهر لهم في أي لحظة.

محطات

وفي العموم، يلحظ القارئ للرواية مزيجاً من الواقعية الفجة والتخيلات، كما تتنقل الكاتبة في أماكن عديدة وبين شخصيات متنوعة لتبني حبكة محفوفة بمشاعر الخوف. وفي شكل من الأشكال ربما تبدو الرواية سيرة ذاتية خالصة تتشابك فيها محاور الشخصي بالأدبي السردي العام. واللافت ذلك الحضور الطاغي لعلاقة الأب بابنته.

تفسير الأحداث

أتقنت الكاتبة ديمة ونوس فن الخلط بين الشخصيات، خاصة حين يغوص القارئ بين السطور ليجد نفسه سائراً في دهاليز التفافات لعله كان يتمنى لو أمكن تبسيطها والابتعاد عن الإشارات المغرقة التي قد تكلفه عناء التحليل والاستنباط كي يصل إلى المقصود منها. ولعل ما يشفع في ذلك، إسهام هذا الأسلوب في توسيع مدارك التحليلات التي تعطي القارئ خيارات متعددة يسيح من خلالها خياله ليصل إلى ما يحدده هو من تفسيرات للأحداث.