بحرفية كاتبة متمكنة من أدواتها الإبداعية، تمسك الروائية العراقية إنعام كجه جي بخيوط روايتها، وتنسج أحداثها بدقة دون إغفال تفصيل صغير، أو إضافة تفصيل يسيء إلى ذلك الفضاء المفتوح على عوالم تسبح في الضوء، لتخترق ذات القارئ وتستقر في أعماقه، خاصة وأنها تستحضر سيرة وطنها العراق، بماضيه قبل حاضره، لتقاوم بكتابتها تلك الصور التي تحاول وبشدة طمس معالم تاريخ عريق. إذ قالت في حوارها مع «بيان الكتب»: «أسعى، في أصل كتابتي، إلى أن أدون سيرة عراق زلزلته الحروب».
ولهذا لم يكن مستغرباً أن يحضر العراق من جديد في روايتها الأخيرة «النبيذة» الصادرة عن «دار الجديد» في بيروت، ومن جديد أيضاً اختارت الكاتبة العراقية المقيمة في باريس منذ عقود أن تكون بطلة روايتها امرأة لاحقت تحركاتها عبر زمن امتد إلى 80 عاماً، تنقلت فيه بين بلدان عدة.
وعن تفاصيل «النبيذة» تحدثت كجه جي التي ترشحت روايتان من أعمالها للقائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر»، لـ«بيان الكتب».. كما كشفت عن جديدها وذلك من خلال الحوار التالي:
مرة جديدة بطلة روايتك امرأة، بل وتتصدر صورة امرأة غلاف الرواية، هل هذا بمحض مصادفة أم جاء عن قصد؟
عادة ما أختار صورة حقيقية لأغلفة كتبي ورواياتي، خصوصاً إذا كانت مستلهمة من سير نساء حقيقيات. جربت ذلك في «لورنا» و«كلام عراقيات» و«طشاري» وأخيراً في «النبيذة». ويبدو أن التجارب كانت ناجحة. وهناك مثل فرنسي يقول: «لماذا نغير وصفة ناجحة؟». وإذ أراجع نفسي، أجد أن رواياتي الأربع كانت تشتمل على سير لنساء متفردات، حقيقيات أو متخيلات أو بين بين. وأنا أحب أشرعة البين بين التي تسير بي نحو أفق من الخيال الذي يكسر حدة الواقع. لماذا كان عليّ أن أعثر على كاشانية في رواية «سواقي القلوب»، وعلى رحمة في «الحفيدة الأميركية»، ووردية في «طشاري»، وتاج الملوك في «النبيذة»، ولماذا جاءت بطلاتي مسنّات غير قادرات على الحركة، لا تنبض في كل واحدة منهن سوى ذاكرة قوية وعنيدة؟
في هذه الروايات لم أكرر تجربة لورنا. لم أسحب الكلام العالق بين شفاه النساء، بل وجدتني أقوم بدور أكثر إيجابية. أن أضع الحكاية التي تروق لي على ألسنتهن. هي بشكل ما سيرتي أيضاً، سيرة أمي وعماتي وأهلي وجيراني، ومن خلالها سيرة الوطن الذي أعرف قبل أن يلبس الخاكي ويرتدي ثياب التنكر، يوم كان يلهو بانقلابات صغيرة ينفذها عقداء وزعماء طائشون، ولم تتطور الهواية إلى احتراف حروب لا تبقي ولا تذر.
ملاحقة
تلاحقين أحداث روايتك في العديد من البلدان والمدن، وهي: العراق وفلسطين وبيروت وكراتشي وفنزويلا وباريس، هل كان هذا الخيار الجغرافي نوعاً من التحضير المختلف والقراءة المتخصصة؟
بما أن هناك جذوراً واقعية لأحداث الرواية، فقد كان علي أن ألاحق شخصيات الرواية في المدن التي تنقلت فيها. وأنا من المدرسة القديمة التي تفضل تسمية الشخصيات بالأبطال. وبما أن كتابة الرواية هي الهواية الممتعة التي أمارسها إلى جانب عملي اليومي في الصحافة، فإنني كنت أتمتع بالسفر مع «أبطالي» و«بطلاتي» حيثما أخذتهم الرياح. وهناك بلاد لم أضع قدمي فيها، لذلك كان لابد من التحضير والمطالعة والنبش في أطلس الخرائط وطلب بركات العم «غوغل».
والغريب، هو أنني بعد كل هذا الاستعداد، كنت أشعر أثناء الكتابة بأنني أعرف أسواق كراتشي ومطارها، وحجرات إذاعتها العربية التي عملت فيها بطلتي «تاج الملوك» وأحبت زميلها «منصور البادي».. كذلك طرقات كاراكاس وزنازين السجن الذي كان الرئيس الفنزويلي السابق «شافيز» نزيلاً فيه، حيث تعرف إلى الفلسطيني «منصور» العائد من كراتشي.
80
لديك قدرة على الإمساك بخيوط التاريخ وتحريكها بحرفية، لتقدمي للقارئ في روايتك هذه بانوراما تمتد 80 عاماً، فكيف تتعاملين مع التاريخ، وما الأمور التي تحافظين على واقعيتها التاريخية دون تدخل روائي؟
بصراحة، أتعبتني هذه الرواية لأنها كانت تحتاج إلى توثيق دقيق وعودة لأحداث وشخصيات سياسية من التاريخ القريب للعراق. لذلك أظن أنني سأتوب عن استرجاع التاريخ. لكن من أين تأتي التوبة إذا كانت غايتي، في الأساس، هي تثبيت ما كان عليه وطني من تسامح ومدنية واحترام للمرأة، وما تقهقر إليه بسبب الحروب وما تلاها من احتلال أميركي وواقع سياسي فاسد وضياع للقيم السابقة.
كأنني أسعى لسرد سيرة الوطن الذي أراه يشيخ ويتقسم ويكاد يغيب عن نفسه ويهاجر من أرضه وينسلخ عن ماضيه. وشعب عريق لم نعد نتعرف إليه في قنوات الأخبار ونحن نتابع مشاهد العنف والتهجير والسبي وقطع الرؤوس. بلد جميل مثقف متنوع مبدع غني وراق، كأنه لم يعد موجوداً إلا في الصور والأغنيات القديمة.. في الملفات الإلكترونية. في ذاكرات عجائزه اللواتي يرفضن الإقرار بالواقع المستجد. وكان مهماً بالنسبة لي أن يكون تسلسل الأحداث واضحاً واللغة سلسة لكي لا يضيع القارئ في متاهات المدن والحقب.
الوطن
إذاً، العراق يحضر من جديد في روايتك «النبيذة» هو يسكنك وأنت بعيدة عنه منذ عقود، فهل تعتبرين حضوره نوعاً من الوفاء لعراق شهد الحروب وعاش نتائجها الكارثية؟
الوفاء للوطن ليس منّة ومجرد واجب بل هو حق. فكيف إذا كان الوطن أرضاً للعراقة والثقافة والخصب والرفاهية وحلاوة العيش؟ أنا مدينة للعراق بكل ما أنا عليه من تعليم وخبرة مهنية وثقافة أدبية. وبالمقابل فقد وضع على عاتقي سلة من الخوف والقلق والأحزان. ومهما ابتعد المرء عن مسقط رأسه فإن لغته وذاكرته ومذاقاته وصوره وأغنياته تظل تشده إلى هناك. ولدت عراقية وأموت عراقية. وهو أمر بديهي حسبما أظن، هل تتصورينني أحلم في مناماتي وأهذي باللغة الفرنسية؟
في أحداث روايتك هناك وجود لشخصيات شهيرة، مثل أحمد بن بلة، والجواهري، فهل لوجودهم ترتيب خاص يختلف عن الشخصيات التي تصنعينها من خيالك؟
نعم، هناك تشكيلة واسعة من الشخصيات الحقيقية، بن بلة وبورقيبة ونوري السعيد والجواهري والأمير عبد الإله وأم كلثوم. وهم يحضرون ليؤدوا أدوارهم التي قاموا بها في الحياة، يوم اشتبكت دروبهم مع دروب أبطال روايتي. وحتى هؤلاء فإن فيهم شطراً من الواقع، وأشطاراً من الخيال.
أقوى من الرواية
من قبل «طشاري» والآن «النبيذة»..عناوين مميزة تثير التساؤل، فكيف تختارين عناوينك؟
هذا شيء مما علمتني الصحافة إياه. فقد عملت مديرة للتحرير، أي في مطابخ الصحف، لسنوات طوال، وكان من ضمن واجباتي اختيار عناوين المقالات.
إن العنوان هو عتبة الدخول إلى العمل، والواجهة التي تجذب أو تطرد، وعموماً فأنا لا أنتظر اكتمال الرواية لكي أقرر عنوانها بل يفرض نفسه علي من البداية، وأتمسك به وأدخل معركة مع الناشر دفاعاً عنه، حتى لو بدا للوهلة الأولى غريباً وغير مفهوم. سيفهمه القارئ حالما يتوغل في القراءة.
نشرت، كما سبق وأشرت، كتاب «لورنا» وهو سيرة ذاتية للرسامة البريطانية التي كانت زوجة النحات العراقي الشهير جواد سليم، وكتاباً آخر بالفرنسية عن الأدب الذي كتبته العراقيات في سنوات المحنة والحروب، هل لديك مشاريع لشخصيات أخرى.. وما هي إن وجدت؟
لو سمح لي الوقت، أتمنى الكتابة عن المغنية الريفية «مسعودة العمارتلية» التي استرجلت، في ثلاثينيات القرن الماضي، وارتدت الدشداشة الرجالية والعقال وتسمت باسم «مسعود».
كانت رواية «الحفيدة الأميركية» ضمن القائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر»، كذلك «طشاري» التي توقع الكثيرون حصولها على الجائزة. ماذا يعني لك هذا الترشح، وماذا تمثل لك الجوائز عامة؟
اختيار روايتين متتاليتين لي في القائمة القصيرة للبوكر العربية أسعدني وأتاح لي الالتقاء بزملاء لي من الروائيين العرب، كما سمح لي معايشة ظاهرة جميلة تتميز بها دولة الإمارات هي نوادي القراءة النسائية. لم أحصل سوى على جائزة فرنسية، عن الطبعة المترجمة من «طشاري»، لكن ترشيحي عزز ثقتي بما أكتب، خصوصاً وأنني وردت نهر الرواية على كبر.
هل من جديد تعملين عليه في هذه الفترة؟
نعم، فكرة ما زالت قيد الاختمار في رأسي، عساها تطرح. كما أود تسجيل مذكراتي التي تتضمن حوادث ومواقف وتجارب أقوى من رواياتي.
«النبيذة» مغامرات لا يتسع لها عمر واحد
تروي «النبيذة» قصة «تاج الملوك»، فتاة تقودها الظروف للسفر في بلدان وعواصم تعيش فيها مغامرات كثيرة لا يتسع لها عمر واحد. ومن بين كل هذا، لا تغفل الروائية إنعام كجه جي عن سرد تاريخ عراق مُعَذِّب، عبر ما يقارب الـ80 سنة، من تواريخ مختلفة موزعة على بلدان وأعمار وظروف سياسية.
قصص
تحكي الرواية عن لقاء «تاج الملوك عبدالحميد»، الصحافيّة الجريئة والمتحرّرة والموهوبة، صاحبة مجلّة «الرحاب»، بعازفة الكمان «وديان الملاح» التي فقدت سمعها وتبدل مجرى حياتها، فيجمعهما العراق لتتشعب الرواية بشخصيّاتها وأزمنَتها ومغامراتِها وقصص حبّها.
وعلى الرغم من أن «تاج الملوك» هي بطلة الرواية، لكن «وديان» والفلسطيني «منصور البادي» لا يغيبان ولكل منهما صوته وقصّته المستقلّة.
وزعت كجه جي روايتها بين بلدان كثيرة. وفي الفصل الأول منها تظهر «تاج الملوك» امرأة مسنة تقضي أيامها الأخيرة في أحد مشافي العاصمة الفرنسية باريس، وتسير متعكزة على عصاها، فتتجاور غرفتها مع أحد ضحاياها المفترضين، مصادفة، ألا وهو الرئيس الجزائري السابق أحمد بن بلة واسمه الحركي «مزياني مسعود» الذي يرقد مريضاً في المستشفى ذاته. وكان أحد أهدافها يوماً ما، حيث كان من المفترض أن تقتله بناء على طلب جهة كانت تعمل لصالحها (المخابرات الفرنسية)، إلا أنها لم تفعل هذا من باب التعاطف.
«تاج الملوك» التي تتمتع بقوة الشخصية والذكاء، كانت مقربة من الساسة في العراق، وخاصة رئيس الوزراء في فترة الحكم الملكي نوري باشا السعيد.
في بغداد
في رحلة غير مرتبة عبر الزمن، تبدو تاج الملوك امرأة في العشرينيات من عمرها، شرقية لها حرية رجل، حضرت إلى بغداد مع أمها صغيرة وعاشت معها وزوجها عبدالمجيد الذي منحها اسمه، لكنها رفضت الخنوع له وتمردت عليه وعلى الأعراف، ما ساعدها على الانتقال للعمل في مجال السكرتاريا في بيت طبيبة إيرانية. فأعجب بها شقيق الطبيبة الذي يعمل صحافياً، فعلمها الكتابة وأصول العمل الصحافي، وسرعان ما شقت طريقها في عالم الصحافة.
وباتت أول امرأة تعمل بهذا المجال، ساعدها ذلك على التقرب من رجال ذوي نفوذ سياسي واقتصادي كبير، أبرزهم نوري السعيد الذي تتلمذت على يديه، ليصبح معلمها في السياسة والصحافة أيضاً، ووفر لها أخباراً حصرية لمجلتها «الرحاب» التي صدر عددها الأول في بغداد العام 1946، إلا أن ذلك لم يمنعها من النزول إلى الشارع مع المتظاهرين ضد القصر في العام 1948 رفضاً لمعاهدة «بورتسموث» قبل أن تتزوج ضابطاً مخابرات فرنسي يدفعها للعمل معه جاسوسة لصالح مخابرات بلاده إبان الثورة الجزائرية.
إضاءات
تحضر فلسطين في «النبيذة» من خلال «منصور البادي» الذي يتحدث عن شيء من المأساة الفلسطينية منذ إعلان قبول إسرائيل عضواً في الأمم المتحدة. ومن إضاءات على تاريخ فلسطين، بعد أن استعانت الروائية بشهادات حية لمن عاشوا أيام النكبة وإلى العراق المتقلب ما بين ملكية وجمهوريات متعاقبة، ومن بينها حقبة حكم صدام حسين، ذلك عبر شخصية «وديان». وهكذا تجتمع قصص الشخصيات الثلاث، في تناقضاتها بين الشعر والجاسوسية والحب والسياسة، وغيرها، وكأن الروائية تتمنى (كما أشار أحد الإعلاميين)، «أن لا يموت عراق الانفتاح والأصالة، ولا فلسطين الثورة والمقاومة».
بطاقة
» د. إنعام كجه جي. روائية وإعلامية وكاتبة عراقية مقيمة في فرنسا منذ عقود. تعمل في الصحافة والترجمة.
» درست الصحافة والإعلام في العراق، وعملت إعلامية في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة قبل أن تنتقل إلى باريس عام 1979. وهي تعيش فيها حتى الآن.
» قدمت عام 2004 عملاً وثائقياً عن نزيهة الدليمي، أول امرأة تصبح وزيرة في العالم العربي.
» أصدرت كتبا وروايات عدة، منها «لورنا سنواتها مع جواد سليم»، «كلمات عراقية»، «سواقي القلوب». إضافة إلى «الحفيدة الأميركية» و«طشاري» اللتين رشحتا إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر».