ديفيد مينز:التاريخ خدعة وضلال

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

«هستوبيا» هو الاسم الذي اختاره القاص الأميركي ديفيد مينز عنواناً لروايته الأولى، التي تدور أحداثها حول حرب فيتنام وتداعياتها المدمرة على المجتمع الأميركي، إذ ألفها للمرة الأولى، منذ 22 عاماً، لكنه خبأها في الأدراج، ذاك لأن محترف القصص القصيرة لم يكن يتقن هذا الشكل الجديد عليه من أشكال الكتابة بعد، وهو يقتبس مقولة الروائي الأميركي دون دليلو ليؤكد وجهة نظره: «ينبغي على الكاتب أن يستمر في تأليف القصص وقتاً طويلاً، قبل أن تبدأ الرواية في الكشف عن التيارات الأكثر عمقاً التي تسري داخله».

وفي حوار أجرته معه صحيفة «غارديان» البريطانية أخيراً، أقر ديفيد مينز بأنه واجه صعوبة في الانتقال من كتابة القصص إلى تأليف الروايات، وأوضح ذلك مبيناً الاختلاف بين النوعين الأدبيين، وهو يقول في هذا الصدد: «ما تأمل تحقيقه القصص القصيرة هو أن تجعل الماضي يشع من وراء القصة، فيما المستقبل ظاهر أمامها، وأن تختم نهايتها بطريقة تجعل القارئ يعيد قراءتها والسير بها قدماً إلى اللانهاية. أما في الرواية فما بين اليدين هو نقيض ذلك، وينبغي أن يختم الكاتب الرواية وينهيها».

البقعة

في 2006، نشر مينز قصته القصيرة «البقعة» التي يستعرض فيها شخصيات ستظهر في روايته «هستوبيا»: الشابة المخطوفة ميغ ألن والجندي بيلي- تي. فبدت شخصيات «هستوبيا» مأخوذة من تلك القصة القصيرة، ليتبين أن العكس صحيح، وهو يقول: «أخذت إجازة سنة كاملة لكتابة رواية، ومضغت النيكوتين، وشربت القهوة، وكتبت مخطوطة بخط اليد، وكدت انتهي من المشروع، ثم قلت لنفسي: لا أريد أن اكتب رواية، سأكتب قصة، فكتبت (البقعة)».

سيعود الكاتب، بعد سنوات، إلى مشروع روايته، ليضحك من نفسه، فيقول: «لا يمكنك أن تأخذ قصة من القصص، وتقوم بإطالتها ومدها». ويضيف: «لكن هذا ما فعلته! وكتبت عدة روايات لم أستطع أن أضع اسمي عليها، لكن من الصعب حقا، أن تكون كاتب قصص، وأن لا تؤلف رواية».

لحظة فارقة

امتهان مينز الكتابة يعود إلى لحظة وفاة أبيه، ويقول في الخصوص، إنه كان شبه وحيد، وبعد وفاة والده قال لنفسه: «ما بالك أيها الفتى! لديك الكثير من الأفكار، فقط باشر في الكلام، ربما لا يكون متماسكاً بالكامل، لكن ربما جملة من أصل 10 ستكون مثيرة للاهتمام».

وأكثر ما كان يثير اهتمامه أولئك الذين يقفون «على حافة المأزق الإنساني، كالمشردين والمعدمين واليائسين والانتحاريين». لكن مينز يسمو بقصص أولئك المهمشين البؤساء، وفقاً للكاتب جيفري اوجينيدس الذي يقول عنه، إنه يطل: «على شخصياته والحياة نفسها من موقف يتسم بحد أقصى من الإدراك والتسامي وعدم التحيز».

رواية مينز «هستوبيا» لم تخرج عن مواضيعه المفضلة التي تصف المعاناة والوحدة والحزن والعنف، لكن الكاتب يمنح القارئ بارقة أمل، فإذا كان المرء «واعياً وإنسانياً وحياً»، كما يقول، يدرك أنه «هناك لحظة من الإحساس بالنعم تلي المصائب».

اقتباس وواقعية

يعرف الكاتب أسلوبه، مبيناً أنه يدور في إطار خفي منطو على ذاته، وكان قد زعم أن «كل القصص هي علاقة اللحظات القصيرة بلحظات أطول منها»، وهذه العلاقة في أعماله تبرز عن طريق حذف المكنون. وفي «هستوبيا»، سيبرز هذا الامتناع والكتمان كجزء من الأسلوب، وربما احتراما لمأساة عائلته. ويقول: «كنت مضطرا للعمل حول الموضوع، وأن أستخدم قصة عائلتي وقوداً، لكنني شعرت ولا زلت، بأنني لو قلت شيئاً مثيراً للصدمة، فإنني سأستنفد كل ما لدي».

يستهل مينز روايته باقتباس لجوناثان شاي، الطبيب الذي تثير أعماله حول «اضطرابات ما بعد الصدمة»، إعجابه: «الذاكرة المؤلمة ليست حكاية يجري سردها»، فالصدمة كما الحرب، ليستا شيئين متماسكين، ولهذا ربما الدافع لنخبر أنفسنا قصصاً عنهما. ويقول في الصدد: «مع فيتنام لم يستغرق الأمر طويلا، ليس فقط لتجاهل الحرب، لكن أيضا للتصرف كما لو أن أميركا انتصرت في الحرب». ويتابع: «والآن، ما يمكنني أن أقوله هو أننا خسرنا حرب العراق، ومع ذلك لدينا أناس...».

من وجهة نظره: «التاريخ وهمي، ليس فقط بمعنى وهم، بل بمعنى انخداع وضلال. فأميركا هي تلك الدولة العملاقة، لذلك لديها تلك الأوهام الكبيرة، فيما التاريخ يشكل الموقع المناسب لهذه الأوهام». ويرى الكاتب، أن ما نتوهمه عن ذاتنا يكمن في التاريخ: «ليس في اللحظة الراهنة أو المستقبل، بل في الماضي». وهو يعتقد أن قادة الجيش الأميركي يكتبون خطط المعركة بعد حصول المعركة، جاعلين الواقع نوعاً من قصة خيالية بأثر رجعي. ويعلق قائلاً: «أي شيء من ما أكتبه لا يقترب حتى من سخافة وعبثية وغرابة فيتنام».

كان عازماً على إبقاء لغة الرواية مع كل غرابتها لناحية الموضوع وبنية النص، لغة مباشرة قدر الإمكان، ويقول: «أردت فعلاً كتابة نوع الكتاب الذي أردت أن أقرأه عندما كنت في العشرين من عمري. وأدركت أن بعض الجمل ينبغي أن تكون محرك الرواية، لكنني لم أكن معتاداً على ذلك في تأليف القصص، وبدا لي الأمر رخيصاً وسهلاً للغاية».

صورة وحكاية

رغبة مينز في كتابة رواية عن فيتنام تعود إلى 25 سنة. إذ كان عمره سنتين عندما ظهرت إحدى الصور الأكثر تعبيرا عن الحرب: ذاك الراهب البوذي الذي أحرق نفسه حتى الموت عند تقاطع سايغون. لكنه كان في سن المراهقة عندما أوقفت عمته، وهي أم لخمسة أطفال وناظرة مدرسة ثانوية، سيارتها على الطريق في صبيحة أحد الأيام، وسكبت الغازولين فوق رأسها. وهو سيقوم بتغليف صدمة انتحارها في قصته «أحداث حرائق متنوعة» بكلمات مثل: «كانت عضواً في عائلة جميلة محترمة من دون مصاعب حقيقية (ظاهرة من الخارج)».

فكيف يمكن تخطي كل هذه الصدمات؟ «كل العلاجات زائفة» هذه هي اللازمة التي يكررها في روايته، ويقول عن المجتمع الأميركي: «نؤمن بالعلاجات، فنحن بلاد علاجها سريع، ونسير إلى الأمام قدماً، ونلتهم ما لدينا بسرعة قصوى من ناحية الموارد الطبيعية والأفكار والملكية الفكرية. نحن نوع من أغبياء بإرادتنا في كثير من الأحيان، ومناهضين للفكر والثقافة».

لكن مينز يظل متفائلا، فيقول: «الحلم الديناميكي الذي كان في فترة الستينيات من القرن الماضي، ذلك الجانب الجيد منه، يمكننا العثور عليه مجددا».

وبرغم المرارة والألم، يمنح المؤلف شخصياته نهاية تلائم اليوتوبيا أكثر منها «الهستوبيا»، ويقول: «كما كل الأوهام الجيدة، يبقى وقودها الأمل الحقيقي والتفاني في سبيل الحقيقة».

«هستوبيا» سرد يكشف خبايا الحروب وأهوالها

في روايته الأولى التي هي عبارة عن رواية داخل رواية، يعيد القاص الأميركي ديفيد مينز كتابة التاريخ بشكل آخر، حيث يظهر فيها الرئيس الأميركي الأسبق جون كنيدي وقد نجا من عدة محاولات اغتيال، ويبقى جاثما على صدر الشعب الأميركي لولاية رئاسية ثالثة، فيما حرب فيتنام تستعر على نقيض ما اعتقد كثيرون بشأن نوايا كنيدي إنهائها، وأوجد كنيدي وكالة فيدرالية، تدعى «السلك النفسي» مكرسة للحفاظ على الصحة العقلية للبلاد بأي وسيلة ضرورية.

وتتعامل هذه الوكالة مع الجنود المصدومين العائدين من فيتنام، من خلال عملية تخدير تقضي وتفضي إلى كتمان ذكرياتهم الأليمة. التطبيق يجري بشكل كارثي ويفشل مع بعض المحاربين القدامى الذين يتحولون إلى عدوانيين يتجولون في ولاية ميتشيغان، وتقوض البيروقراطية ما هو مطلوب لإعادة توازن أولئك الرجال من جديد.

«رايك»

وبين قدامى المحاربين غير المتوازنين عقلياً، الذين يقترفون الفظائع بحق المدنيين، هناك شخصية «رايك» المضطرب عقلياً، الذي يختطف شابة تدعى ميغ، فيما تبرز في المقابل شخصية الشاب سنغلتون الذي يرسله «السلك النفسي» للعثور على رايك.

وسنغلتون قصة نجاح «للسلك النفسي»، فهو لا يذكر شيئا من ماضيه في الخدمة، وسيقع أثناء بحثه عن رايك في حب عميلة أخرى للوكالة تدعى وندي، وستتطور العلاقة بين تلك الشخصيات الأربع وآخرين، قبل أن تختم بنهاية سعيدة. فيواجه رايك العدالة، وتهرب ميغ، أما سنغلتون ووندي فيقعان في الحب.

ماض «مجنون»

وتعود الرواية بالذكريات إلى ماض مليء بجنون الارتياب والمناجاة والهوس والرؤى العنيفة، لتشير إلى أن بعض الصدمات لا تمحى كلياً. ويقوم بكتابة الرواية داخل الرواية عن شخصية الجندي الشاب أوجين الين، أحد المحاربين القدامى، الذي عاد من فيتنام ليكتب قصته والتداعيات الرهيبة للحرب، دامجاً صدماته الشخصية بصدمات البلاد. الرواية مليئة بالمقابلات ومذيلة بملاحظات أوجين ومحاولاته المتعددة في كتابة رسائل انتحار.. وهو يصور أوجين كشخصية تميل إلى العزلة ومصابة بمرض «ستيلر»، الذي من عوارضه رغبة الشخص في الوقوف أمام نوافذ العلية لفترات طويلة..وكذا التجول هائما في الباحات الخلفية والأحياء المهجورة.

يكتب ميتشيكو كاكوتاني في صحيفة «نيويورك تايمز» معلقاً على الرواية: «إنها صورة لأميركا المضطربة في أواخر الستينيات من القرن الـ20، أميركا التي تعاني من البطالة والأحلام الضائعة، وتغلي من الغضب».

كما يقول جاي ماكينرني من «نيويورك تايمز بوك ريفيو» عنه: «يكتب مينز بجمالية عن العالم الطبيعي ويستحضر صوت الريح ورائحة بحيرة ميتشغان عبر أشجار الصنوبر». ويبرز نهر كالامازون الأكثر تلوثاً في العالم، في العديد من قصصه، بما في ذلك في قصتي «البقعة» و«مرثية الدبب النائمة»، حيث يراقب راوي القصة «الضوء الضعيف يسقط ميتاً على تموجات الطين المتصلبة».

انتقادات

الرواية الأولى لمينز تعرضت لبعض الانتقادات، فاستناداً إلى لورا ميلر في صحيفة «غارديان»، في معرض تعليقها على عمل مينز الأخير، ليس كل بارع في شكل أدبي يتفوق بالقدر نفسه في نوع آخر. وتقول، إن الأشياء التي تُصنع منها الرواية، خطوط القصص المتعددة، والإيقاع المرتفع والمنخفض من الإثارة السردية وبناء العالم المتخيل، وتبدو هذه في رواية مينز مجرد سلالم خارجية مبنية حول الحقيقة، بدلاً من شكل يمكن للحقيقة أن تأخذه. وطبعا هذا الرأي، موضع خلاف بينها وبين نقاد أدب آخرين، أعجبوا برواية مينز الأولى.

نبذة

ولد ديفيد مينز، القاص الأميركي المعروف عالمياً، في كالامازو بولاية ميتشغان. وهو حائز على ماجستير في الأدب، وعلى وجه التحديد في الشعر من جامعة كولومبيا. يعمل في كلية فاسار منذ 2001. صدرت له أربع مجموعات قصصية، عدا قصص كثيرة أخرى. وتعتبر «هستوبيا» أول رواية له. وحصل الكاتب على جوائز أدبية شهيرة، كثيرة.

Email