عبرة

حالنا مع الدنيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحمد لله أنْ قدَّر بعد الحياة موتاً، وبعد الموت معاداً، وفي المعاد حساباً، وبعد الحساب -لمن شاء سبحانه رحمةً، إذ لولا الموت والمعاد والحساب لطاول طموحُ الإنسان عنان السماء دون حدّ، ولبلغ مبلغه من الجبروت والطغيان ما لا طاقة له نفسُه بتحمله.

لكنْ، رغم ما في هذه الأقدار الربّانية من حِكَمٍ، وعِبَرٍ، ودروس، ومواعظَ، فإن إنسان هذه الأيام يعيش في الدنيا، وكأنه لا موت بعدها، ويعمل فيها أعمالَ من يظنّ أن لا حساب وراءها. وقفَ نظرَه عند حدود أنفه، فتمتع بنعمة البصر، وحُرِم من نعمة البصيرة. اتخذ من الدنيا موطناً أبدياً، فسعى لها سعيَ من لا يرى ما وراءها، وجمعَ فيها جَمْعَ العاضِّ عليها بالنواجذ. من كانت هذه حاله، لم تجُزْ عليه إلا الرحمة، ولا تحقُّ فيه إلا الرأفة، فهو لم يدركْ الغاية من خلقه، ولم يعرف الآية في نفسه، ومن كانت هذه حاله، فإنني أحيله إلى من طابَ مقاله: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه وهو يجيب على رجل يطلب منه وصفَ الدنيا، فأجابه علي الراضي المرضي، قائلاً: "ما أصف من دارٍ أوَّلُها عناءٌ، وآخرُها فناءٌ، في حلالها حسابٌ، وفي حرامها عقابٌ، من صحَّ فيها أَمِنَ، ومن مرِضَ فيها نَدِمَ، ومن استغنى فيها فُتِنَ، ومن افتقر فيها حَزِنَ". لعمري، ما أجد أدق وصفاً، ولا أعذب كلمةً، ولا ألطف معنىً، من كلمات رابع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم جميعا، وأنّى أن يقول هذا الكلامَ إلا من فقه حال الدنيا، وغاية الخلقِ، ومعنى الحياة. علي وصحبُه عمَروا الدنيا بهم، ولم يعمروا أنفسَهم بها، واستخدموا الدنيا لآخرتهم، لا لذواتهم، وشيّدوا الدنيا بالمعاني، لا بالمباني. أولئك قوم فهموا الرزق أنه كفاف في المال، وزيادة في الإيمان، وصحة في البَدَن، وبسطةٌ في العلم، وقوة في الدين، ولم يقصروا فهمهم للرزق على "بحبوحة في الدراهم" يعضّون عليها بالنواجذ، ودليل ذلك في قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو يصرف الناس عن تحمل أعباء الرزق وهمِّه، فيقول: "يا ابن آدم، لا تحملْ همَّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه، فإنه إن يُعْلَمْ مِنْ أجَلِكَ يأت فيه رزقك، واعلم أنك لا تَكْسِبُ من المال شيئاً فوق قُوتِكَ إلا كنت فيه خازِناً لغَيْرك".

وقديما قال الشاعر:

سهرت أعينٌ ونامت عيونُ

في شؤون تكون أو لا تكون

إنَّ ربّاً كفاك بالأمس ما كان

سيكفيك في غدٍ ما يكون

Email