عبرة

»ما فعل شِرادُ جملك؟«.. دعابة نبوية

ت + ت - الحجم الطبيعي

إحدى عوراتنا الخُلُقِيّة في زمننا الحالي: ضيق الأفق، مضافا لها عورة أخرى: ضيق الصدر. فنحن نحمل سيوفنا على المؤمنين، ونعمل عين الرقيب فيهم وعليهم، ثم نتتبع عوراتهم، فإن وقعوا في أي هفوة أقمنا الدنيا عليهم، ولم نقعدها، ولسان حالنا يقول: كيف تفعلون هذا وأنتم المتدينون؟!

أما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فله حال أخرى، وله أسلوب آخر، وله أدب آخر، وله صدر آخر، وله أفق آخر، فها هو ينكر على الصحابي خوّات بن جبير جلوسه إلى نساء أعجبنه، ومحادثته إياهن، ويتأذى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فعلة خوّات، ولكنه مع ذلك يؤدبه، ويعلمه، بأسلوب رقيق ينطوي على حسّ مداعبة عال، لدرجة جعلت الحياء والندم يبلغ مداه في نفس خوّات رضي الله عنه وأرضاه. وهذه هي القصة كما أوردها ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث".

قال خوّات بن جبير: نزلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ الظَّهران (قرية قرب مكة)، فخرجت من خبائي، فإذا نسوة يتحدثن، فأعجبنني، فرجعت، فأخرجت حلّة لي من عَيبَتي، فلبستها، ثم جلست إليهنّ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبّته، فقال: "أبا عبد الله! ما يجلسك إليهنّ؟" قال: فهِبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول جملٌ لي شَرودٌ، أبتغي له قيدا.

قال: فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبعته، فألقى إلي رداءه، ودخل الأراك (موضع في عرفات)، فقضى حاجته، وتوضأ، ثم جاء، فقال: "أبا عبد الله! ما فعل شِرادُ جملك؟" ثم ارتحلنا، فجعل لا يلحقني في المسير إلا قال: "السلام عليكم أبا عبد الله، ما فعل شراد جملك؟".

قال: فتعجلت إلى المدينة، فاجتنبت المسجد ومجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما طال ذلك علي تحيَّنتُ ساعة خلوة المسجد، فجعلت أصلي، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض حجره، فجاء، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم جلس، وطوَّلتُ رجاء أن يذهب ويدعني، فقال: "طوِّل أبا عبد الله ما شئت، فلستُ بقائم حتى تنصرف"، فقلت: والله لأعتذرنَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبرئنَّ صدره، فانصرفتُ، فقال: "السلام عليكم أبا عبد الله، ما فعل شراد جملك؟".

فقلت: والذي بعثك بالحق ما شرد ذاك الجمل منذ أسلمت، فقال: "رحمك الله" مرتين أو ثلاثاً، ثم أمسك عنّي، فلم يعد.

Email