الإعجاز في سورتي العلق والقلم

ت + ت - الحجم الطبيعي

سورتا «العلق» و«القلم» أول ما نزل من القرآن الكريم، نزلت العلق أولاً مفتتحة الوحي بالأمر الشهير (اقرأ) وتبعتها القلم مباشرة وفي صدرها قسم إلهي (ن والقلم)..

والملاحظة الجديرة بالبيان هنا أن الأولى تدعو إلى القراءة والثانية تحض على الكتابة، بل وتقسم بأداة الكتابة القلم وما يسطره الإنسان به، وكلا السورتين ينبه إلى وسيلة من وسائل تحصيل العلم والمحافظة عليه وتنميته وتسجيله. وهكذا جاءت أول رسالة من السماء تنوه بالقلم وشأنه والقراءة وخطرها (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ)، (العلق:1-4)

فالقراءة والكتابة درجتان ضروريتان في سلم أولويات تحصيل العلم وبناء الحضارة الإنسانية ومن هنا كان اهتمام الإسلام بهما وعرضهما في أول ما نزل من دستور المسلمين ومعجزة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ومما يدعو للتفكير أن تكون الكلمة العظيمة التي بدأ بها الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم هي: «اقْرَأْ» كان من الممكن أن يبدأ الوحي بأي كلمة أخرى غيرها. ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم أميّ لا يقرأ، إلا أن هذه الكلمة تُوجه له!! إذاً فقد بدأ الوحي خطابه لخاتم الرسل بأمر صريح مباشر، مختصر في كلمة واحدة تحمل منهج حياة أمة الإسلام «اقْرَأْ»!!

 

مكانة

ثمّ إنّ في الحلف بالقلم والكتابة والمكتوب إلماعاً إلى مكانة القلم والكتابة في الإسلام، كما أنّ في قوله سبحانه: «علّم بالْقَلم» إشارة إلى ذلك، والعجب أنّ القرآن الكريم نزل وسط مجتمع ساده التخلّف والجهل والأمية، وكان من يجيدون القراءة والكتابة في العصر الجاهلي لا يتجاوز عددهم الأصابع، وقد سرد البلاذري في كتابه «فتوح البلدان» أسماء سبعة عشر رجلاً في مكة، وأحد عشر من يثرب. (فتوح البلدان: 457)

وهذا ابن خلدون يحكي في مقدمته: أنّ عهد قريش بالكتابة لم يكن بعيداً، بل كان حديثاً وقريباً بعهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم). (مقدمة ابن خلدون:418.)

ثمة آية أُخرى تدعو إلى استخدام القلم والكتابة وهي أكبر آية في الكتاب العزيز، يقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُسمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمهُ اللّهُ فَلْيَكْتُب» (البقرة:282)

وهذا الخطاب موجه إلى نبي أمي وأمة أمية لا تقرأ ولا تحسب، وكأنه إشارة إلى تحول عظيم قادم في شأن هذه الأمة، وفيه إيماء إلى الدور الذي تؤديه آلة الكتابة، فالقلم من أوسع وأعمق أدوات الفكر أثراً في حياة الإنسان ولذلك جاءت الإشارة إليه في أول لحظة من لحظات الرسالة الأخيرة في حياة البشر، جاءت الإشارة إليه أول كلمة من القرآن كما جاء القسم الإلهي العظيم به في أول سورة القلم (نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ*مَا أنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) (القلم:1-2)

 

مطية

فآلة القلم التي عظمت قيمتها بقسم الله بها هي مطية الفكر وأداة العلم وناقلة المعرفة بها تستطيع الأمة نشر دعوتها، وبث عقيدتها والإعلان عن منهجها في الحياة، ونظرتها للخلق والخالق، وتصورها للبداية والمصير، ففي القسم بالقلم ما يشير إلى الدور الحضاري الفكري الذي ينتظر هذه الأمة فبأسنة الأقلام بلغت دعوة الإسلام بلاد الروم والفرس ومماليك اليمن والأحباش، بلغتها أقلام الإسلام قبل أن تبلغها سيوفها والرماح، وبأسنة الأقلام حفظ تراث الأمة، وخطت المصاحف، ودواوين السنة ومدونات الفقه واللغة.

وبها حفظ التاريخ والأدب، بأقلام المسلمين رصدت حركة عصور السلف بكل دقة وبراعة، فإذا قرأت في ما خطته الأقلام فكأنما تعيش مع القوم وتسمع حديثهم، وما دام قلم المسلم يكتب باسم ربه الذي خلقه فالكلمة التي يخطها كلمته طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ما دام قلم المسلمين يكتب باسم ربه فلن تقوم على الإسلام شبهة، ولن يستبد بالمسلمين جهل ولا عماية، فالقلم المسلم سيف مشروع في ساحة الجهاد الفكري.

إن قيمة القلم ــ في التصور الإسلامي ــ والتداول القرآني تكمن في ما يكتب من فكر مضيء مستنير وساطع، وبما يسطره بحروف من نور، تعلم الناس وتزيل ظلام الجهل عنهم، وتكشف الزيف، فيكون ما يكتبه القلم من نصوص وما يُفهِمُه من أفكار بمثابة الحجة البالغة في قوة أثرها ووقعها على القراء. وهذا لا يكون إلا عندما يقصد الكاتب بكل ما يكتب وجه الله والدار الآخرة، فيتحرى في كل ما يكتب أو يسطر بقلمه النية الخالصة والصدق والحق والعدل. عند ذلك يرقى مقاله إلى درجة عالية يستحق به كاتبه نيل أجر المجاهد.

فالقصد إذاً إيصال الحقيقة وتجليتها للناس في أحسن صورها، هذا هو دور ومهمة ووظيفة وغاية القلم في التصور الإسلامي والمقصد القرآني؛ فهو وسيلة تعليم وتنوير وفكر وبيان؛ لهذا اقترن القلم في التناول القرآني، تارة بالعلم، وتارة أخرى بكلمات الله؛ قال تعالى: (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم) (العلق:4)، وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لقمان:27).

Email