السياسات الحكومية تدعم استدامة التشريعات وضمان جودتها

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعرف السياسة الحكومية بأنها الوسيلة التي تنتهجها الحكومات لترجمة أولوياتها الاستراتيجية، وذلك من خلال اعتماد مجموعة متسقة ومتناسقة من البرامج والمشاريع اللازمة لتنفيذ أهدافها وغاياتها الاستراتيجية، وتبني المبادرات ومعالجة الإشكاليات التي قد تظهر في أي من الشؤون الحيوية والمهمة المرتبطة بالقطاعات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع، كالشؤون المالية أو الاستثمارية أو البيئية أو السياحية أو التعليمية أو الصحية وغيرها، التي تضطلع الحكومة بتنظيمها والإشراف عليها، حيث تسعى من خلال اعتماد وتوظيف وسائل وتقنيات معينة إلى إحداث تغيير للوصول إلى الغايات المرجو تحقيقها من تبني وإطلاق السياسات الحكومية، بدءاً من عملية تحديد الأهداف التي تُعد من الأمور المهمة لوضع الإطار العام للسياسة، ومعرفة النتائج المتوقع تحقيقها من إقرارها، مروراً بتطوير قاعدة الأدلة الخاصة بالسياسة، وتحديد وتقييم الخيارات المتاحة، وصولاً إلى تصميم السياسة، وإجراء تحليل شامل للتحقق من مدى الحاجة إلى القيام بتدخل تشريعي، لوضع هذه السياسة موضع التطبيق، من عدمه.

مراكز متقدمة

وقال المستشار طارق خميس أبو سليم في اللجنة العليا للتشريعات: «إن وصول دولة الإمارات العربية المتحدة إلى مراكز متقدمة ضمن مؤشر التنافسية العالمي، ما هو إلا نتاج لإطلاق حزمة من السياسات الحكومية، وفق منهجيات واضحة ومبتكرة، مواكبة لأفضل الممارسات العالمية، لذا أولت القيادة الرشيدة في الدولة اهتماماً بالغاً في إعداد السياسات الحكومية، ومراجعتها وتطويرها، بما يضمن مواءمتها مع الأهداف الإستراتيجية، التي رسمتها، وجعلها قابلة للقياس والتطبيق، على نحو يرسخ النهج الحكومي الذي تتميز به الدولة، ويعكس التطور اللافت في منظومة العمل الحكومي ومخرجاتها».

 

أهداف

وأضاف: «إن تنفيذ السياسات الحكومية يكون من خلال تبني مجموعة من البرامج والخطط والمبادرات، التي يمكن بواسطتها تحقيق الأهداف التي أقرت لأجلها تلك السياسات، وفي كثير من الأحيان، يتطلب تنفيذ هذه السياسات وتحقيق الأهداف المرجوة منها إصدار تشريعات يتم بموجبها منح الجهات الحكومية القائمة على تنفيذ تلك السياسات أساساً قانونياً يمكن الركون إليه لوضعها موضع التطبيق، ذلك أن السياسات الحكومية قد تشتمل على إنشاء كيانات جديدة، أو إضافة اختصاصات جديدة للجهات الحكومية القائمة والمعنية بتطبيقها، أو تأتي تنفيذاً لمعاهدات أو اتفاقيات دولية تكون الدولة طرفاً فيها أو منضمة إليها، أو أن يتطلب تنفيذها تعديلاً على تشريع قائم، لذلك فقد كان من الأهمية إصدار التشريعات التي من شأنها بلورة ودعم تلك السياسات بالجودة المرجوّة والكفاءة العالية».

 

تطور المجتمعات

وتابع: «قيل إن التعرف على مدى تطور أي مجتمع من المجتمعات، يكون من خلال الاطلاع على السياسات الحكومية المعتمدة والتشريعات السارية فيه، فتطور المجتمعات يقاس بمدى تطور تشريعاته، وهذا التطور لا يتحقق إلا إذا كانت تلك التشريعات متسمة بالكفاءة والفاعلية، وقدرتها على مواكبة التطور الذي تفرزه نواحي الحياة المختلفة، وترسيخ مبادئ الحوكمة الرشيدة، وسيادة القانون، واستدامة التشريعات، والوصول إلى أعلى درجات النزاهة والشفافية، وتحقيق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين أفراد المجتمع وفئاته».

وأوضح المستشار طارق خميس أبو سليم «أن من بين أهم الغايات التي تسعى إليها الجهات الحكومية عند إقرار أي من السياسات الحكومية المتعلقة باختصاصاتها، هو ضمان حسن تنفيذ هذه السياسات، بما يحقق الأهداف التي وضعت لأجل تحقيقها، لذلك فقد كان لزاماً أن تكون التشريعات الصادرة تنفيذاً لهذه السياسات، واضحة وصريحة تؤدي إلى الوصول إلى النتائج المتوقعة من إقرارها، وتعالج الإشكاليات وتحقق الغايات التي وضعت تلك السياسات لأجلها، فالتشريع، ما هو إلا أداة تسعى من خلالها الجهات الحكومية على اختلاف اختصاصاتها إلى تحقيق أهدافها الاستراتيجية، للوصول إلى أكبر قدر من الفائدة بإصدارها لهذا التشريع، وهذا الأمر ينطبق على كافة التشريعات مهما اختلفت مرتبتها في الهرم التشريعي، من هنا جاءت فكرة استدامة التشريعات، كداعم أساسي في تعزيز مبدأ سيادة القانون، ومؤداه، هو أن تلتزم الدولة بضمان أكبر قدر من الثبات النسبي في التشريعات التي تصدر عنها، بما يحقق الاستقرار في الأوضاع والمراكز القانونية التي نشأت في ظل هذه التشريعات، وبما يؤدي إلى تعزيز ثقة الأفراد بالتشريعات السارية، ولا يمكن لهذا الأمر أن يتحقق إلا بإقرار تشريعات واضحة ومفهومة وقابلة للتطبيق، لا تخضع للتعديل أو التبديل المتكرر، فالاستدامة التشريعية شرط جوهري يتم من خلاله ضمان جودة القانون وصلاحيته للتطبيق».

 

منهجية واضحة

وقال إن عملية تحويل السياسات إلى تشريعات قابلة للتنفيذ، تستوجب اعتماد منهجية واضحة ومحددة، وتتطلب اتباع العديد من الخطوات التي تتوزع فيها الأدوار بين الجهة الحكومية المعنية بتطبيق السياسة، من جانب، والجهة المعنية بإعداد وصياغة التشريع، من جانب آخر، لذا فإنه وانطلاقاً من قرار سمو رئيس المجلس التنفيذي رقم «12» لسنة 2014 بشأن اعتماد نظام عمل اللجنة العليا للتشريعات في إمارة دبي، ودليل السياسات الحكومية في إمارة دبي، فقد انتهجت إمارة دبي طريقاً واضحاً في ترجمة السياسات الحكومية إلى تشريعات تحقق الأهداف والغايات المرجوة من إقرارها، إذ يمكن حصر هذه المنهجية بعدة خطوات، تبدأ بإعداد دراسة مبدئية تتضمن سياسة شاملة للمواضيع والمسائل التي تقترح الجهة الحكومية المعنية إصدارها في شكل تشريع، وفقاً للنماذج والمعايير المعتمدة لدى اللجنة العليا للتشريعات في هذا الخصوص، بحيث تكون تلك الدراسة مشتملة على العناصر الرئيسية والأحكام الموضوعية المتعلقة بمشروع التشريع المقترح، ومن ثم تقوم الجهة الحكومية المعنية بتنفيذ السياسة بعرضها على اللجنة العليا للتشريعات لدراستها وتقييمها، تمهيداً لإقرارها والموافقة المبدئية عليها، أو إبداء أي ملاحظات بشأنها، بعد ذلك تتولى الجهة الحكومية، بعد صدور موافقة اللجنة المبدئية على السياسة، البدء في عملية إعداد وصياغة السياسة المعتمدة في شكل تشريع، وعرضه على اللجنة خلال أسبوعين من تاريخ صدور الموافقة المبدئية، مرفقاً به السياسة المعتمدة ومشروع التشريع والمستندات المتعلقة به، ثم تتولى اللجنة دراسة مشروع التشريع، وما تضمنه من مقترحات وأحكام من الناحية الفنية، وإدخال ما تراه من تعديلات عليها، بالتشاور والتنسيق مع الجهة الحكومية طالبة التشريع، والتحقق من عدم تعارضه مع التشريعات والمبادئ القانونية السارية في الدولة، واستيفائه لمعايير الصياغة القانونية، ثم تقوم اللجنة بعد ذلك بعرض مشروع التشريع على الجهات الحكومية المعنية لإبداء ملاحظاتها خلال المدة التي تحددها، للوصول إلى صيغة توافقية بشأنه، ليصار إلى إقرار التشريع بصيغته النهائية، واتخاذ الإجراءات اللازمة لاعتماده وإصداره من السلطة المختصة.

آثار إيجابية

وقال المستشار طارق خميس أبو سليم «إن من بين الآثار الإيجابية لاستقرار السياسات الحكومية هو ضمان الاستدامة في القطاعات التي أقرت لأجلها، فعلى سبيل المثال، إذا كانت السياسة تتعلق بالقطاع الاجتماعي، فإن آثار الاستدامة التي تحدثها السياسة على النسيج الاجتماعي، يشمل الرفاه والرضا على مستوى الحياة، وأما آثار الاستدامة على القطاع الاقتصادي، فتشمل النشاط والنمو الاقتصادي، وزيادة فرص العمل، ورفع المؤشرات الاقتصادية، من هنا فإن ما تحدثه السياسة من استدامة في القطاعات المختلفة، ينعكس إيجاباً على التشريعات المنظمة لتلك القطاعات، بما يضمن استدامتها وجودتها، متى كانت هذه التشريعات، تلبي احتياجات الجهة الحكومية المنظمة لهذا القطاع، وتوفر بيئة تنظيمية مستقرة تنطبق عليها معايير الحوكمة القائمة على سيادة القانون، والشفافية، والاستجابة، والكفاءة، والفعالية، والوصول إلى ما يسمى بـ«التشريعات التشاركية» من خلال إيجاد لغة مشتركة، وقنوات تواصل بين الجهات الحكومية المعنية بتطبيق التشريع، من جهة، والقطاع الخاص والأفراد ومنظمات المجتمع المدني، من جهة أخرى، بحيث يكون ذلك كله، باتباع المعايير الحاكمة لصناعة التشريعات، لما لها من انعكاسٍ إيجابي في إعداد وصياغة التشريع، وتحقيق الأهداف المرجوة من إصداره، باعتبارها الضامن الرئيس لجودة التشريع، وزيادة كفاءته وفاعليته».

التشريعات الاقتصادية

وقال المستشار طارق خميس أبو سليم، الاستدامة التشريعية في القطاع الاقتصادي، على سبيل المثال، تمكن المستثمرين من التخطيط لاستثماراتهم وأعمالهم بدرجة عالية من الثقة بالبيئة التشريعية والاستثمارية، وتضمن استمرارية الأنشطة الاقتصادية، وتدعم قدرتها على النمو الاقتصادي، وحساب الأعباء المالية المترتبة على إقامة المشروع الاستثماري بما يضمن ديمومته، وتقليل التكاليف المالية غير المبررة، في حين أن الاستدامة التشريعية في القطاع الاجتماعي، ستؤدي إلى تحقيق العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع، على اختلاف احتياجاتهم وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، ومعتقداتهم الدينية، كما تحقق تكافؤ الفرص بين متلقي الخدمات الحكومية من صحة وتعليم وعمل وخدمات إسكانية، أما الاستدامة التشريعية في القطاع المالي، فإنها ستؤدي إلى ثبات في إجراءات المعاملات المالية واستقرار الأسواق.

جودة التشريعات

وعلى نحو موازٍ لما يمثله استقرار السياسات الحكومية من آثار إيجابية في استدامة التشريعات في مختلف القطاعات، فإنها تؤدي كذلك إلى ضمان جودة التشريعات، سواء كان ذلك من نواحٍ شكلية تتعلق بشكل التشريع، أو من نواحٍ موضوعية، تتعلق بجوهر التشريع، بحيث تشمل السمات الشكلية للتشريع الجيد، ضمان حسن صياغته، وبساطته ويسره، من حيث انتقاء واختيار الألفاظ، وبناء القاعدة القانونية، وجزالة التعبير، وضمان أهلية القائمين على صياغة التشريع.

وأما السمات الموضوعية لجودة التشريعات، فهي تتعلق بشمولية التشريع، وسهولة تطبيقه، وتوافقه واتساقه وتكامله، إذ تقضي شمولية التشريع، بوجوب أن يحتوي التشريع على كافة المسائل المتعلقة بموضوعه والإحاطة بها بشكل كامل، ضمن نسق متناغم ومتوافق ومتكامل، دون تعارض بين أحكامه، وتجنب أي فراغ تشريعي عند تنظيم موضوعه، بحيث يستوفي التشريع كافة ما يلزم لتطبيق أحكامه على نحو يحقق غاياته وأهدافه، ففكرة الشمولية التي يجب أن يتصف بها التشريع لا تتنافى عند إحالة التشريع ذاته في تنظيم بعض المسائل المتعلقة بموضوعه إلى تشريعات أخرى، أو عندما يفوّض سلطة معينة في إصدار لوائح لتنفيذ بعض أحكامه.

سمات

وأما سهولة تطبيق التشريع، كواحدة من سمات التشريع الجيد، فمفادها أن تتم صياغة التشريع على نحو تسهل معها عملية تطبيقه سواء من المخاطبين بأحكامه أو المعنيين بتطبيقه، وهذا يستوجب أن تكون نصوص التشريع واضحة ودقيقة لا لبس ولا غموض فيها، وأن يتهيأ للمخاطبين بأحكامه تحقيق مصالحهم بسهولة وبأقل قدر من الجهد والعناء، وهذه الصفة ستقلل إلى حد كبير من احتمالات الاختلاف في تفسير نصوص التشريع أو تأويلها عند تطبيقها، فمن أهم الأمور التي تساعد على تحقيق السهولة في تطبيق التشريع وفهمه، تجنب الإحالة في بيان بعض المسائل التي ينظمها التشريع إلى تشريعات أخرى ليتم الرجوع إليها لمعرفة أحكام المسألة موضوع الإحالة.

وقد يزيد من الأمر صعوبة أن تكون صياغة كلا التشريعين «المحيل والمحال إليه» مختلفة في المنهج والأسلوب، وهو الأمر الذي سيزيد من صعوبة تطبيق الأحكام المتعلقة بهذه المسألة.

توافق

وأوضح «أن توافق التشريع واتساقه وتكامله، فمفادها أن يكون التشريع متوافقاً في أحكامه ومفرداته مع النظام القانوني السائد في الدولة، ومتسقاً مع القيم العليا التي يؤمن بها المجتمع، ومتكاملاً مع المصالح العليا التي تنهض التشريعات بحمايتها، وهذا يقتضي ألا تناقض التشريعات بعضها بعضاً، وألا تخالف أحكامها قيم المجتمع، أو تتعارض مع المصالح العليا فيه».

بنية تشريعية مرنة تدعم تطبيق الذكاء الاصطناعي

قال المستشار طارق خميس أبو سليم، انطلاقاً من ترسيخ مفهوم استدامة التشريعات، وحرصاً من اللجنة العليا للتشريعات في إمارة دبي، على تطوير العملية التشريعية وتحسين ورفع جودة التشريعات وكفاءتها، وبناء منظومة قانونية تتواءم مع التطلعات المستقبلية لإمارة دبي وطموحاتها، ويتوافق مع خططها وبرامجها الاستراتيجية، وتوفير بنية تشريعية متينة تواكب المتغيرات، وتدعم تطبيق الذكاء الاصطناعي واستشراف المستقبل في مختلف المجالات، فقد دأبت اللجنة، ومنذ نشأتها بموجب المرسوم رقم «23» لسنة 2014، على إعداد ودراسة التشريعات التي تكون متسقة ومنسجمة مع السياسات العامة التي تقرها الجهات الحكومية المعنية بتنظيم قطاع معين، بغرض الوصول إلى أعلى درجات الدقة والشفافية، وضمان حسن تنفيذ التشريعات، وكفاءتها وفعاليتها، بما يحقق مصالح الناس، على اختلاف فئاتهم، مستنيرة في ذلك بمقولة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، باعتبارها نبراساً حقيقياً في استدامة التشريعات، وطريقاً تنتهجه لتحسين التشريعات وزيادة جودتها، «لا ترى الحكومة الإيجابية في صياغة التشريعات واقتراح القوانين هدفاً بحد ذاته، بل وسيلة لإسعاد الناس وتحقيق مصالحهم، لذا فإن تعارض القانون مع مصلحة الناس، فإنها تغيّره».

Email