سيول الأعالي

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ القديم والعربُ الفصحاءُ يُشبّهون الشعرَ الهادر في النفس والوجدان بالسيل المتحدّر من أعالي الجبال، وترى في هذا التشبيه جامعاً لغزارة المعاني وصفاء المشارب وقوّة الاندفاع، وكم أتمنى أن يكون حظي من التوفيق وافراً حين شبّهتُ قصيدة (سيوف المعالي)، التي نشرها صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبيّ، رعاه الله، على حسابه في الانستغرام بهذه السيول العالية الهادرة، حيث أضاء فيها جانباً من رؤيته الثاقبة للحياة، ملخّصاً جوهرها العميق في هذه الحكمة النابعة من قلب قد أرهفته التجارب وصقلته المواقف، ليختم القصيدة بأبيات فيّاضة بالحب الصافي والإخاء النادر، الذي يجمعه وصاحبَ السموّ الشيخ محمد بن زايد آل نهيّان، وليّ عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، (بوخالد الشهم)، الذي خصّه «بوراشد» بأصفى معالم المحبة في غير واحدة من القصائد، لكن هذه القصيدة مختلفة عن جميع ما سبقها من القصائد، فهي فوّاحة بعطر خاص تجلى في هذه الألفاظ المختارة بدقّة وعناية، وبهذا الحب المتدفق من حنايا الصدر، حيث يلوح ذلك في كل حرف من حروف هذه القصيدة الفاخرة الثمينة.

الـمَجدْ لأهْـلِهْ ولا يـهمِّهْ سـليلْ المَجدْ

                     إذا تــطـايـرْ غــبــارْ ولامَــــسْ إنـعـولِـهْ

وعـنـدي خـيـارْ الـرِّمَكْ إذا الـلِّقا يـشتَدْ

                       إمـضَـمِّـرَهْ وجــاهـزهْ لـلـعـزْ مـشـكـولِهْ

منذ البيت الأول تلوح معاني الفخر والاعتزاز بالمجد الأصيل لصاحب السموّ، فهو سليل الشيوخ منذ القديم، وهو وارث مجدهم ورافع راية مآثرهم، قد اعتادت نفسه على أفعال الكرام وأصبحتْ سَجيّة له وطبيعة لا تفارقه لأنها متغلغلة في تكوينه وخلايا روحه فهي ليست طارئة عليه، وقدمه راسخة في طريق العزّ والسيادة فلا يهمّه الغبار المتطاير في الطرقات إذا لامسَ نعله فهو لا يحفل به فضلاً عن أن ينظر إليه، لأن النفوس الكبيرة لا تحفل بالصغائر، بل هي طامحة ببصرها إلى العالي البعيد والأفق الرحب.

المجد والقوة

وتزداد نبرة الإحساس بالمجد والقوة في البيت التالي، حيث يجزم صاحب السموّ بجاهزية خيله المُسْرجة المضمّرة المستعدة لكل طارئ ونازلة، ولا تعرف إلا طريق العزّ فهي دائمة الاستعداد مشكولة بالقوة والعلامات الدالة على أصالتها وصهيلها الذي يقول ما لا تقوله الكلمات.

أسـري إذا الـليلْ الأظـلَمْ داجنٍ مسوَدْ

                     ولـلـذيبْ سـريِـهْ بـظـفرْ ونـابْ مـكفولِهْ

وآعَــرفْ كـيـدْ الـلـيالي وهَـزلِها والـجَدْ

                   بـصـير عــارفْ زمـانـي مـجـرِّبْ إفـعولِهْ

وتزداد القصيدة حفاوة بمعالم الفروسية ومعانيها الجليلة، ويفتخر صاحب السموّ بشجاعة قلبه وكونه فارساً من فرسان الليل، الذين يدوسون الظلام بقدم الشجاعة ورباطة الجأش، وينهضون إلى ما يريدون كما ينهض الذئب الجريء المقدام، الذي تضرب العرب بشجاعته وبسالته المثل، حتى قال قائلهم من شعراء البادية الأصيلة:

لولا هَلكْ سريت لك سرية الذيب

                     لي ما يخلّي من العشا باقياتي

لي من سرى يسري ويدمي المخاليب

                   رمّ العظام ولا يحسب حاسباتي

وهنا يقدّم صاحب السموّ صورة بديعة نادرة للذئب حين يصف طبيعة سَرْيِه بأنها شديدة العزم تتسلح بالظفر الجارح والناب الغارز، وكلاهما يكفل البطش بالصيد والسيطرة التامة، وهو ما يتمدّح به الفرسان الذين لا يتركون مجالاً للخصم فهم يأخذون بتلابيب عنقه ويُطْبقون عليه بمخلب العزيمة حتى يستسلم ويلفظ أنفاسه الأخيرة، ولا يكتفي صاحب السموّ بهذه الصورة الكاشفة عن شدة شكيمته وقوة بأسه، بل يُضيف إليها صورة معنوية أخرى تكشف عن عمق بصيرته وصادق خبرته ودقة نظراته في الأشياء والمواقف، فهو وافر الحظ من المعرفة بطباع البشر ويعرف كيد الكائد وغدر الغادر، وعبّر عن ذلك بالليالي لأن أفعال الإنسان (الشينة والزينة) إنما تجري مع مجريات الليالي والأيام فهي مستودع الأخلاق والتصرفات التي تصدر عن الإنسان، ومن كان في موقع صاحب السموّ وخبرته فهو البصير بأفعال أهل الزمان وأخلاقهم، ويعرف كيف يتعامل مع هذه الحياة وما تُخبّئه في طياتها.

وآعَــرفْ مــنْ فـي الـمعكِّرْ دومْ تـتصيِّدْ

                      وتــقـولْ أشــيـا غـريـبهْ غـيـرْ مـعـقولِهْ

مـاحَـدْ سـلَـمْ مـنْ أذاهـمْ كِـلْ حَـدٍّ بَـدْ

                         حـتَّىَ الـنِّبي والصَّحابَهْ وناسْ مسؤولِهْ

إنّ الخبرة العميقة في الحياة لا تكتفي بالمعرفة النظرية للحكمة والتجربة، بل لا بدّ من معرفة طباع البشر المتلوّنة وتصرفاتهم الدالة على عكورة أرواحهم، فهم لا يواجهون الإنسان في النهار ولا يطيقون شرب الماء الصافي، بل همّهم ودأبهم التصيد في المياه العكرة لأنها الموافقة لطبيعة نفوسهم الملوّثة، ولو كانوا من أهل الأخلاق الكريمة لكان لهم مسلك آخر يظفرون معه باحترام الناس وتقديرهم، لكن طبيعة تفكيرهم الملتوية تجعلهم يبثّون ما لا يُعقل من الكلام، وينشرون الأذى ولا يتورّعون عن إلحاقه بمن أحسن إليهم، وهذه هي جِبِلَّةُ النفوس الخبيثة التي لا تعرف الصفاء ولا الوفاء، وهي النفوس التي لم يسلم من أذاها أحد حتى أنبياء الله الكرام عليهم صلوات الله وسلامه وصحابتهم الأبرار، فقد نالوا من الأذى ما هو معروف ومسطور في الكتب، ولم يكن لهم من ذنب سوى فضائلهم وكرم أخلاقهم التي يتضاءل أمامها الحاسدون وأهل اللؤم والنفوس الوضيعة.

تـركـتْ أهــلِ الــرِّدا فــي غـيِّـها تـمتَدْ

                            ونفسي بكسبْ العلا والمجدْ مشغولِهْ

ومـنْ كـانْ عـضدهْ مـحمدْ مـايهمِّهْ حَـدْ

                            بـوخالدْ الـشَّهمْ حـامي بـعَزمِهْ الـدُّولهْ

وترتفع القصيدة في هذا المقطع إلى أفقها العالي اللائق بها، فيترفّع صاحب السموّ عن النظر إلى أهل الأخلاق الرديئة لأنّ ذلك ليس من شيمته، بل هو مشغول باكتساب المجد والسير في طريق المعالي تاركاً أهل الردى سادرين في غيّهم وضلالهم وسوء أخلاقهم، فهو ليس ممن يستفزّه هؤلاء الناقصون عن طبقات أهل الكمال، بل يجب نبذُهم وعدم الاحتفال بهم، لأن الالتفات إليهم يرفع من شأنهم، فالأولى بأهل الكمال أن يُعرضوا عنهم ويتركوهم وما نذروا أنفسهم لهم من مساعي الفساد والإفساد.

عضيد

وتأكيداً على كل ما تقدّم تنعطف القصيدة إلى الإشادة بصاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان الذي كان وما زال وسيبقى العضيد القوي الأمين لأخيه «بو راشد»، الذي يعتزّ به ويدّخره للأيام، ويرى فيه سيفاً ماضياً لا يخذل إخوانه في المُلمّات، ونبعاً صافياً من الحب والوفاء لا يبخل على أحبابه، بل هو في نظر صاحب السموّ حامي الدولة ونسرها الشجاع الذي لا ينام إلا بعد أن يطمئن على راحة شعبه وسكينة وطنه، خصال حميدة ورثها عن زايد الخير، رحمه الله، ذلكم الباني الشجاع الرحيم، الذي تعلّم منه المُحمّدان أنبل معاني الفروسية والإخاء، فمن كان «بوخالد» عضيداً له فهو لا يهتمّ لكيد الكائدين ولا لعداوة أهل الشرور والحسد والضغينة.

عـنده سـيوفْ الـمعالي مـرهفاتْ الحَدْ

                     فَ أغـمادها قـاطعِهْ يـا كـيفْ مـسلولِهْ

وعـنـده لــرَدْ الـعـدا لأجـنـادْ مــا تـنعَدْ

                       أهــلِ الـبـطولِهْ حـمـاهمْ مـاحـدْ يـنولِهْ

وتزداد القصيدة احتفاء بمناقب صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، الذي تحتفظ خزائن عزّه ومجده بالسيوف القاطعات، وهي في أغمادها فكيف إذا كانت مشهورة مسلولة، فهي مرهفة الحدّ، ماضية الضربة لا تنبو حين تنبو السيوف، ولا تخذل صاحبها حين ينتضيها في وجه العدوّ الغادر الذي أعدّ له من الأجناد البواسل الشجعان ما لا يُحصى كثرة وعديداً، فهم أهل البطولة الذي يحمون وطنهم وحِماهم ولا يسمحون لأي يد ماكرة غادرة أن تنال ذرّة من ترابه الغالي الجميل، ثم كانت هذه الخاتمة الرائعة التي تُلخّص هذه العلاقة الرائعة بين صاحبي السموّ الشيخان المحمدان: محمد بن راشد ومحمد بن زايد، حيث تزداد نبرة الألفة والإخاء ظهوراً حين يصرّح صاحب السموّ «بوراشد» بأنّ أخاه «بوخالد» هو السندُ والظهير الذي ما تعسّر عليه عسير إلا وحلّه بأيسر الأمور فهو الأخ والعضيد والعزوة والسندُ حين يحتاج الأخ أخاه ويناديه فلا يخيب نداه.

عـلـيـهْ دوم إعـتـمادي دايــم بــلا عــد

               ويـحـل أصـعب الأمـور بـيسر وسـهوله

سيدي صاحب السموّ:

ما أسعدنا بهذه الروح القوية المحتدمة التي هي نبراس يهدينا في طريق المجد، فهذا هو الذي تعوّدناه منكم أن تظلوا طليعة للأمة والوطن نسير بعزيمتكم، ونسرج خيلنا حين ينادي داعي البلاد.

Email