رائعة محمد بن راشد «قصائدي في حب الخيل»

ثنائية الفروسية والأخلاق روح وثّابة للمجد والإنجاز

محمد بن راشد «فارس العرب» | أرشيفية

ت + ت - الحجم الطبيعي

بهذا العنوان الرشيق الدلالة (قصائدي في حب الخيل) جمع صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دُبيّ، رعاه الله، ثماني عشرة قصيدة من قصائده التي ترنّم بها في حبّ الخيل وتبجيل مقامها، ولَفْتِ الأنظار إلى أعمقِ الأسرار في سبب محبتها، ومن تذوّق بقلبه ووجدانه ذلكم الحضورَ الخلّاب للخيل في الكتاب الأخير لسموّه (قصّتي)، أدرك ببصيرته الثاقبة أنّ قصة الخيل هي قصة روح سموّه المتطلعة للمجد والإنجاز، وقصة قلبه الفيّاض بالحب والعطاء، تماماً كما يتجسّد هذان المعنيان الجليلان في قلب كل حصان جامح جسور، فالخيل هي عنوان المجد والعظمة في التاريخ، وهي الفيّاضة بالعطاء حين تسبح كالنهر في ميدان السباق، فلهذا ولغيره من الأسباب العميقة أحبّ صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الخيل، وأبدع في التعبير عن هذا الحب بأسلوبٍ مُدهش يضعه في قائمة الشعراء الكبار الذين فُتنوا بمحبة الخيل وأجادوا إجادة تقضي لهم بالكمال الإبداعي في وصفها منْ مِثل طُفيل الغَنَويّ، وأبي دؤاد الإيادي، والنابغة الجعدي، ولقد بلغ من شدة التصاقهم بالخيل أن أُضيفت أسماؤهم إلى خَيلهم فقيل: طُفيل الخيل، وزيد الخيل، لشدة عنايتهم بالخيل ومحبتهم لها.

قراءة:أ.د. محمّد عبدالرّحيم سلطان العلماء

 

واستمع معي بقلبك لهذا الوصف البديع للخيل على لسان طفيل الغنوي رغم وُعورة ألفاظه وخشونتها بالنسبة لنا أبناء هذا العصر حيث يقول:

وفينا رباطُ الخيل، كلُّ مُطَهَّمٍ

                          رَجيلٍ كسِرحان الغضا المتأوّبِ

يُذيقُ الذي يعلو على ظهر مَتْنِه

                          ظلالَ خذاريفٍ من الشدّ مُلهبِ

وجرداءَ مِمْراحٍ نبيلٍ حِزامها

                           طروحٍ كعود النبعة المُتنَّخَبِ

ولو كان المقام يسمح بشرح كل لفظة غريبة من ألفاظ هذا الشعر العتيق الجليل، لرأى القارئ من معالم الجمال والفن ما يشهد لروعة الشعر الجاهلي وسموّ مكانته على مرّ التاريخ.

اعتزاز

إنّ محبة صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم للخيل هي النتيجة الحتمية لنسبه العريق المتجذّر في قِيَم العروبة والإسلام، فهو شديد الاعتزاز بمجد العرب، وعظيم الفخر بدورهم التاريخي المجيد في نشر نور الإسلام وحمل مشاعل الهداية للبشرية، وهم في نظر سموّه العالي فرسانُ الصحراء الشجعانُ، الذين اختارهم الله تعالى لحمل آخر رسالاته، وهم سُلالةُ المغاوير، الذين اندفعوا مثل السيل الهادر يترنمون بالقرآن والشعر، ويمتطون ظهور الصافنات الجِياد، ويقطعون الفيافي حتى وصلوا إلى حدود الصين وتُخوم الأطلسي، فسموّه لا يكتب بإحساس الفارس الوحيد بل هو امتداد جليل لآبائه العِظام من العرب العَرباء التي اعتنت بالخيل أروع عناية وقدّمتها على النفس والعيال، وجعلتها شريكاً في لقمة العيش، ولنستمع إلى واحد من أشهر العلماء الذين صنّفوا في فضل الخيل وأنسابها ومبلغ عناية العرب بها، وهو الإمام محمد بن السائب الكلبي، المتوفى سنة 207 هجرية، حيث أفردها بكتاب فريد الدلالة على المقصود سمّاه (أنساب الخيل في الجاهلية والإسلام وأخبارها)، وافتتحه بمقدمة بديعة تلخص طبيعة إحساس العربي بالخيل منذ الجاهلية، وكيف أنّ الإسلام اندفع بهذا الإحساس نحو الأمام وربطه بغايات أخلاقية ودينية جعلت من الخيل معقد عز وفخار، وراية مجد ومشعل نور ونار فقال رحمه الله: «كانت العرب ترتبط الخيلَ في الجاهلية معرفةً بفضلها، وما جعل الله تعالى فيها من العزّ، وتشرُّفاً بها، وتصبُّراً على المخمصة واللأواء، وتخصّها وتُكرمها وتُؤثرها على الأهلين والأولاد، وتفتخر بذلك في أشعارها وتعتدُّه لها، فلم تزل على ذلك من حب الخيل، ومعرفة فضلها حتى بعث الله نبيّه عليه السلام فأمره الله باتخاذها وارتباطها فقال سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (الأنفال 60)، فاتّخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيل وارتبطها، وأُعجب بها وحضّ عليها، وأعلمَ المسلمين ما لهم الأجر والغنيمة، وفضّلها في السُّهمانِ على أصحابها، فجعل للفرس سهمين وللفارس سهماً، فارتبطها المسلمون، وأسرعوا إلى ذلك، وعرفوا ما لهم فيه ورجَوْا عليه من الثواب من الله جلّ وعزّ، والتثمير في الرزق، وجاءت الأحاديث متصلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ثم ذكر بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ».

ثم ذكر رحمه الله حادثاً عجيباً من أخلاق الخيل الكريمة مرويّاً عن الإمام الجليل أبي يوسف القاضي يعقوب بن إبراهيم (ت182هجرية) صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهما الله، يرويه عن الإمام الأوزاعي - كبير فقهاء الشام في وقته - فقال: "كُنّا بالساحل فجيءَ بفحلٍ ليُنزى على أُمِّه فأبى، فأدخلوها بيتاً وألقوْا على الباب ستراً، وجلّلوها بكساء، قال: فلما نزا عليها وفرغ شمّ ريح أمه، فوضع أسنانه في أصل ذَكَرِه فقطعه ومات».

تراث عريق

إنّ هذا الجذر الثقافي العميق للعناية بالخيل في تراثنا العريق هو واحد من العناصر الأساسية التي شكّلت فكر صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في حياته كلها، وجعلت منه فارساً جسوراً مقداماً ينتهج الفروسية شعارَ حياةٍ والشجاعةَ أسلوب عمل، واستمع إليه حفظه الله وهو يجيب عن سؤال تقدّم به إليه طفلٌ صغير خُلاصته: «كيف أستطيع أن أكون فارساً مثلك؟ حيث خصّص سموّه بتواضعه الجمّ للإجابة عن سؤاله مقالة قصيرة ثرية بالمعنى في كتابه الباهر (ومضات من فكر) وسماها «فروسية طفل» تقديراً من سموّه لفكرة الفروسية وتشجيعاً لأبنائه لسلوك هذه السبيل الماجدة فقال: «قلتُ له: أنتَ بدأتَ أول خطوةٍ نحو الفروسية بهذا السؤال الذي يضعك على أول الطريق، وكما يقولون: السؤالُ نصفُ المعرفة، ولكنّ الفروسية ليست فقط رياضة، الفروسية هي أيضاً أخلاق ونُبلٌ وشهامةٌ وتفوّق، فالفروسية تبدأ من الداخل».

ويُتابع هذا المعلّم الجليل وصيّته وإيضاحه لمعنى الفروسية مخاطباً هذا القلب الغَضّ الطري فيقول: «قلت للطفل خلال الجلسة: إنّ أولَ شيءٍ في الفروسية هو حبُّ الأهل وطاعتهم، والتفوّق في الدراسة، واحترام الكبير، والتحلّي بأخلاق الفرسان من رجولة وشهامة وغيرها، فإذا حقَّقتَ هذه الأخلاقَ، يأتي بعد ذلك الجزء الأسهل وهو تعلّم ركوب الخيل في النوادي والمرابط وغيرها من أماكن التدريب المنتشرة».

قيم عالية

إنّ غرس القِيَم العالية من خلال الحكمة الرصينة هو أفضل أسلوب يسلكه الرجال الحكماء في تغذية الروح بالقيم، وتنويرها بالمعنى الصحيح للفروسية، فسموّه يلفت أنظارنا جميعاً وفي درسٍ أخلاقي بليغ المغزى إلى أن الفروسية فكرة سامية، ومنهاج حياة وأخلاقية عالية في السلوك والعمل، وليست هي مجرّدَ ركوب الخيل وامتطاء ظهورها وحصد الجوائز وتحقيق الشهرة، فهذه كلها ثمرات مستحقة للفارس الشجاع المتحلّي بكريم الأخلاق ونبيل الصفات، ثم يشرح سموّه بنظرته الثاقبة وبصيرته الفذّة مغزى هذا الإرشاد الذي توجّه به إلى هذا الصبي المتطلع إلى منازل الفرسان فقال: «حبّ الأطفال للفروسية يعبّر عن نفسٍ طموحٍ وهمّة عالية لديهم، أُشجّع أبنائي دائماً على ركوب الخيل لِما رأيته من تأثير كبير عليهم في صغرهم»، وقبل ألف وأربع مئة عام قالها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «علّموا أبناءكم السباحةَ والرماية وركوب الخيل»، ولم يقُلها من فراغ وهو العربي الفارس والأمير الناصح، وأحدُ عظماء التاريخ الذي جرت الحكمة على لسانه وأيّد الوحي مقولاته وبيانه، بل هي حقيقة راسخةُ ثابتةٌ: أنّ ثَمّة ارتباطاً بين هذه الرياضة ومعاني الكرامة والعزّة والشهامة والأخلاق العالية».

ثم يختم سموّه هذا الإيضاح الفريد للمعنى الأخلاقي للفروسية بالتأكيد على عمق علاقة الإنسان العربي المسلم بالخيل، وأن دولة الإمارات تعي تماماً ما تنهض به من شرف العناية بالخيل وإقامة النشاطات المتعلقة بها ترسيخاً لتراث الآباء والأجداد الذين جابوا الصحارى والفيافي على ظهور خيولهم، ودقّوا وَشْمَ الفروسية على رمالها وصخورها فهل يجوز أن نتنكر لتاريخهم العريق، وننسى تلكم الأيام الصعبة التي كانت فيها الخيل هي كلّ شيء قبل انفجار ينابيع الخير في البلاد، فجاءت هذه الخاتمة المعطّرة بشذا الوفاء للأجداد قديماً وحديثاً لتكون نبراساً تهتدي به الأجيال وهي تغذُّ السير خلف هذا الفارس الشجاع الذي يفتخر أبناء الوطن به وبالسير وراء خطواته الواثقة الجسورة، ويستمعون إليه بإصغاء القلب والروح وهو يخاطبهم قائلاً: «علاقتنا مع الخيل في دولة الإمارات هي امتدادٌ لتاريخنا العربي الأصيل، وتواصلٌ مع جذورنا، وتخليدٌ لرياضة أجدادنا، واعتزاز بموروثنا العربي الإسلامي. وهي أيضاً أخلاقٌ عالية نزرعها في أبنائنا. والخيل لا يأتي منها إلا الخير كما يقول عليه الصلاة والسلام. فهي رياضةٌ باقيةٌ ما بقيت الدنيا، ولا يُكرم الخيلَ إلا أصحاب الخير، ولا يطلب الفروسية إلا أصحاب النفوس العالية».

سيدي صاحب السموّ: هذا مَدخل متواضع للدخول في عوالم خيلك المتراحبة، وإفراد هذا الجانب المضيء المتوهج من حياتك وعاطفتك وأخلاقك بكتاب خاص يحمل إلى أبناء وطنك نبض قلبك النابض بحب الخير والوطن، وسموّ فكرك الذي يحمل هموم البلاد والعباد، وشموخ عزيمتك ومضاء سيفك وأنت تقود الطلائع وتختار الرجال الكرام الذين يحلمون معك ويحققون الأحلام.

وسلامٌ عليك وأنت تفتتح هذه المجموعة الرائعة من قصائدك في حب الخيل بقولك الدال على عميق خبرتك وصفاء نبعتك وغزارة حكمتك: «علّمتني خيلي الأولى أنّ الإنجاز لا يأتي على طبق من ذهب، وعلّمتني أنّه عندما تُحبّ شيئاً واصلْ فيه حتى النهاية، عندما تُريد إنجازاً أعطه كلَّك، لا تُعطه بعضك إلا إذا كنتَ تريد نصفَ إنجاز أو نصف انتصار».

سلامٌ على وجهك الطيب وأنت تمتطي حصانك الجسور وتدوس قلب الظلام، وأنت تترنم من أعماق قلبك بهذا الغناء الصافي مثل الماء الزلال:

ومن على الخيل سيره صبح ومغيب

                                يحتويه التأمل كلما بأرض جال

تملك الخيل وجدي في هواها سليب

                               والقنص والقصايد في وصوف الجمال

ساري وسط ظلما مثل طيفٍ غريب

                                متعب خيل تفكيري أطارد سؤال

Email