محمد بن راشد مستذكراً صدمة «غزو الشقيق» في «قصتي»:

اجتياح الكويت غلطة تاريخية كبرى غيّرت وجه المنطقة للأبد

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

بقدر عمق الروابط، وقوة وشائج الأخوة، التي تربط بين الإمارات والكويت، جاءت صدمة «الاجتياح العراقي» وتردد صداها العنيف في الدولة؛ إذ لم يكن من الوارد بالبال، ولا بالحسبان، أن تتداعى الأمور العربية إلى ذلك الحد، الذي وصلت إليه في مطلع أغسطس عام 1990، لا سيما من قبل بلد بحجم العراق، وموقعه في المنظومة العربية؛ فكان هذا يؤشر على انحراف واضح لدى قيادة هذا البلد عن أسس العمل العربي.

لم يكن الحدث الكبير والصادم يترك مجالاً لتفسيرات أخرى؛ إذ لم يشكل ذلك الاجتياح عدواناً فقط على دولة شقيقة مسالمة، ولكنه أحدث صدعاً في العلاقات العربية، وأحدث اختلالاً في الوعي العربي، كما خلّف هزات ارتدادية ظلت تتداعى وتتوالى لزمن طويل بعد ذلك.

وكان وقع تلك الصدمة قوياً، شديداً، في الإمارات. وكيف لا يكون كذلك، وعلاقات الأخوة التي تربط بين الإمارات والكويت، البلدين والشعبين، عميقة وممتدة، مليئة بالتفاصيل الأخوية؛ ويتردد هذا الوقع الشديد لتلك الأزمة في كتاب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، «قصتي»، حيث يستذكر تلك المرحلة الحالكة في التاريخ العربي، فيقول: «من أكثر الصدمات التي واجهتها في حياتي العسكرية الاجتياح العراقي لدولة الكويت».

وهنا، في هذا المقام، لا بد من الإشارة إلى أن دولة الإمارات واجهت الأزمة، التي مدت ظلالها على المنطقة بكاملها، دولة اتحادية ناجزة، أكملت نحو عقدين من عمرها الاتحادي. ما يؤشر على بعد نظر وأهمية ما بناه الآباء المؤسسون لأبنائهم ووطنهم.

الإمارات والكويت

لم يتردد الإماراتيون في اتخاذ موقفهم في الوقوف إلى جانب الكويت؛ ليس بدافع الوفاء للبلد والشعب الشقيق فقط، ولكن كذلك وفاءً للحق والشرعية، والتزاماً بالوقوف في صف القانون الدولي، بما ينسجم مع أعراف الأخوة وقيم دولة الإمارات، التي قامت على قواعد من التعايش والتسامح، وقبل ذلك العدالة واحترام القانون الدولي.

وبكلمات أدق، فإن تلك الأزمة مثلت اختباراً ناجحاً، انحازت فيه دولة الإمارات لقيمها وللمبادئ التي قامت عليها، وأرست نهضتها على أساسها.

ومع ذلك، فإن جانب العلاقات الإماراتية الكويتية مليء بالمعطيات والحيثيات التي لا يمكن أن تنسى، وتعطي الإمارات الحق في الوقوف مع الكويت في محنتها، وتمنح الكويت الحق في انتظار مساندة غير مشروطة من الشقيق الإماراتي؛ فاسم الكويت منتشر في أنحاء دولة الإمارات دالاً على الخير، يؤشر عليه، ويذكر بالعلاقة التي تربط الإمارات بالبلد الشقيق.

صدمة وذهول

في تلك اللحظات العصيبة، كان قدر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد أن يكون في مواقع المسؤولية الحساسة، حينما تلقى الخبر الصادم، وكان جزءاً مهماً من رد فعل الدولة يتعلق بكيفية تفاعله، هو نفسه مع الحدث المباغت.

وفي هذا يقول سموه: «شكل غزو الكويت في 2 أغسطس من العام 1990 صدمة. أذكر أنني تأكدتُ ثلاث مرات من الضابط الذي نقل لي الخبر. نقلتُ النبأ لأخي الأكبر الشيخ مكتوم، ثم أمرتُ بإعلان حالة الطوارئ لجميع القوات الأمنية والعسكرية. تحدثت مع الشيخ زايد، فوجدته غاضباً وحزيناً في الوقت نفسه. كيف يمكن لصدام أن يفعل ذلك؟ وما هي خطوته التالية؟».

وبطبيعة الحال، فإن هذه الأفكار، التي راودت سموه، وهو حينها في موقع مسؤولية اختصاصية، لا تكشف عن حجم المفاجأة من جانبها العسكري، بقدر ما تشير إلى جانب المفاجأة الجارح، المتعلق بانهيار الثقة بالشقيق والأخ، الذي تجاوز كل الاعتبارات وأقدم على فعلة لا تغتفر، كما أن للمفاجأة وجهاً آخر، فقد كانت حقائق العلاقات الكويتية العراقية تمتلئ بالمعطيات التي تجعل من الواقعة حدثاً من عالم الخيال، فلطالما كانت الكويت داعمة ومساندة للشقيق العراقي.

مفعول المصداقية

وبطبيعة الأحوال، فإن الأحداث في المنطقة لا تتوقف عند الحدود الجغرافية، وسرعان ما تتوالى تداعياتها في أرجاء المنطقة؛ وهذا ما كان. وبقليل من التوتر، كان من الممكن أن تؤثر في جوانب الحياة الأخرى في كل بلدان المنطقة. وقد أثرت فعلاً في كثير من البلدان، غير أن الدولة، بقيادتها الرشيدة، كانت جاهزة للتصرف في تلك اللحظات الحرجة، فأثبتت صوابية تقديرها للموقف، وعمق نظرتها إلى مجريات الأحداث.

ويتحدث سموه عن تلك التداعيات، مستذكراً كيف تصدرت المنطقة عناوين الصحف العالمية، وكيف بدأت الشركات العالمية تضع خططاً للانسحاب من المنطقة، وسط شيوع موجة من الذعر، حيث بدأ المستثمرون الدوليّون يطالبون بسحب أموالهم إلى الخارج بأسرع وقت ممكن.

وبالنسبة إلى الإمارات، كانت ردة فعل القيادة الرشيدة سريعة وحاسمة، إذ يروي سموه أنه أصدر بنفسه تعليمات بعدم اعتراض سبيل أي شخص يريد إخراج أمواله، وهو ما كان له مفعول سريع، حيث توقفت موجة الذعر، وما تبعها من عمليات هروب للأموال.

البنية التحتية

في خضم الأزمة الداهمة، التي تداخلت أبعادها السياسية والعسكرية والإنسانية، تصرفت دولة الإمارات بكل ما تملك من مقدرات وإمكانيات، مظهرة حكمة وبعد نظر؛ وقد اتضح في سياق ذلك، أن البنية التحتية السلمية التي تمتلكها الدولة يمكنها أن تكون في ظروف الحرب ذخيرة وطنية؛ وهكذا تحولت الفنادق والبنايات السكنية وبيوت المواطنين إلى أماكن لاستقبال عشرات الآلاف من أبناء الكويت الشقيقة، الذين لجأوا إلى الإمارات.

كما أصبحت المرافئ الإماراتية مراسي لسفن الحلفاء مع بدء عمليات «عاصفة الصحراء»، وهي العملية العسكرية التي شنتها قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في 16 يناير 1991 لتحرير الكويت من القوات العراقية، وكذلك المطارات العسكرية والمستودعات والموانئ.

قيادة رشيدة

لم تقتصر الوقفة الإماراتية إلى جانب الشقيق الكويتي على هذا الجانب؛ فقدم الإماراتيون دماءهم فداء للكويت. وسجل شباب الوطن ورجاله وقفة عز حينما اندفعوا على مراكز التجنيد، ملبين نداء القيادة للتطوع للمشاركة في تحرير الكويت. وفي الأثناء، كان اهتمام القيادة الإماراتية ينصب على حماية المدنيين من الشعبين الكويتي والعراقي من أهوال الحرب، ويقول سموه في هذا: «وكان من أولياتي عند التعامل مع الجنرال نورمان شوارزكوف، قائد قوات التحالف الدولي، الذي كان يقول أكثر من 900 ألف جندي من قوات التحالف، أن أجد طريقة للحد من حجم الخسائر لدى المدنيين. فلم يرغب شعب الكويت أو شعب العراق في الاجتياح، بل كان عملاً أرعن، وكنت حريصاً على ألا يدفع الشعب ثمن هذه الحماقة».

آثار استراتيجية

لم يكن من الممكن أن يقود العدوان إلى مكاسب من أي نوع للعراق؛ فالقيادة التي اتخذت قرار الاجتياح، كانت قد اتخذت، في واقع الأمر، قراراً بالمغامرة ليس ببلدها فقط، بل بالمنطقة برمتها. ولم يكن من الوارد السماح بذلك. وبالتالي، تضافرت الجهود نحو إنقاذ الموقف، وتحرير الكويت من احتلال الشقيق، الذي رهن نفسه للسياسات التي جنحت به إلى نهج مغامر عدمي.

وهكذا، «أُجبر صدّام على الانسحاب بعد عملية عسكرية ناجحة، وكانت القوات الإماراتية لها شرف أن تكون من أوائل القوات التي دخلت الكويت من أجل التحرير. للكويت أفضال، ولو طالت الحرب لبذلنا لها من أرواحنا وأبنائنا ما تحتاجه حتى التحرير».

يقول سموه في كتابه «قصتي»: «لقد كان غزو الكويت الغلطة التاريخية الكبرى التي غيّرت وجه المنطقة للأبد». وهذا ما ثبت فعلاً، إذ كانت عواقب الأزمة على المنطقة ككل، وعلى العراق بشكل أخص، مدمرة؛ فـ«لم يبقَ العراق كما كان، ولم تبقَ المنطقة كما كانت». لقد ارتكب صدّام خطأ في حساباته، فتسبب هذا الخطأ في نتائج ذات وزن استراتيجي، لم يعانِ منها نظامه فقط، ولكن العراق بكامله، والأجيال الجديدة في المنطقة برمتها.

دور بطولي لقواتنا المسلحة في معركة التحرير

ترجم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، حجم العلاقات التي تربط البلدين الشقيقين بموقفه المشرف أثناء احتلال الكويت، واستضافت دولة الإمارات عشرات آلاف من الأسر الكويتية على أرضها، إضافة إلى قرار المغفور له بمشاركة القوات المسلحة الإماراتية الباسلة في معركة تحرير دولة الكويت، التي قامت بدور بطولي في هذه المعركة، وأدت واجبها على أكمل وجه، وبحسب الخطط المرسومة لها بالتعاون مع الدول الشقيقة والصديقة التي وقفت صفاً واحداً.

شرخ كبير

ومع أن غزو العراق للكويت قد سبب الأسى والحزن لدى الشعب الإماراتي وقياداته، كما أنه سبب شرخاً كبيراً في كيان الأمة العربية الواحد، إلا أن المغفور له الشيخ زايد لم يستطع أن يقف مكتوف الأيدي بل وجه الدعوة إلى شباب الإمارات رجالاً ونساءً وإلى كل قادر على حمل السلاح للتدريب والتطوع والانخراط في القوات المسلحة دفاعاً عن الوطن واستعداداً لمرحلة ما بعد تحرير الكويت.

وتبنت دولة الإمارات وجيشها الباسل في حينها رأياً صائباً في محنة دولة الكويت الشقيقة عام 1990 والشهور التي تلتها وصولاً إلى التحرير في 26 فبراير، ترجمته بوقفتها البطولية إلى جانب الكويت والتي ستبقى تذكرها الأجيال المتعاقبة بعد أنّ روت دماء جنود قواتنا المسلحة الطاهرة أرض معركة تحرير الكويت من الغزو الغاشم.

وكانت تلك الوقفة إيماناً من دولة الإمارات بوحدة المصير الذي يربط دول مجلس التعاون وتعبيراً عن تمسك سياسة الإمارات بالقانون والشرعية الدولية ومبادئ حسن الجوار، ليخوض صقور الإمارات ملحمة بطولية إلى جانب أشقائهم، دفاعاً عن الحق.

مباحثات عاجلة

عندما جاءت أنباء غزو الكويت كان المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، في مدينة الإسكندرية يوم الثاني من أغسطس 1990 فأجرى مباحثات عاجلة مع الرئيس المصري آنذاك حسني مبارك، ثم سافر إلى السعودية على الفور والتقى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، لبحث الموقف معه، وفي صباح اليوم التالي عاد إلى أبوظبي وأصدر أمراً بإلغاء احتفالات عيد الجلوس الرابع والعشرين الذي يوافق يوم 6 أغسطس، كما كان الشيخ زايد من أوائل القادة العرب الذين وافقوا على إرسال قوات عربية إلى السعودية والتي كانت البداية لتحرير الكويت، فوقفة الشيخ زايد بن سلطان، طيب الله ثراه، وقفة الزعيم الذي لا يساوم، وصيحة النداء الصادق النقي.

لقد وضع الشيخ زايد أزمة الخليج في إطارها الصحيح حين أكد موقف دولة الإمارات الرافض للعدوان العراقي المنبوذ، وأشار بكل وضوح إلى أن حل الأزمة يتمثل في الانسحاب العراقي التام وغير المشروط من الكويت، وأنه لا بد من عودة الحكم الشرعي بقيادة الأمير جابر الصباح، واحترام إرادة الشعب الكويتي، وتطبيق الإرادة الدولية الجماعية، فهي السبيل الوحيد لإنهاء الأزمة وتجنيب المنطقة والعالم ويلات الحروب.

مناسبة

وكانت لا تمر مناسبة عند الشيخ زايد، رحمه الله، دون تأكيد وقوفه إلى جانب الشعب الكويتي في محنته، وبكلماته الصريحة الواضحة وبلهجة تعبر عن كل ما تفضل به نفسه من اعتزاز تجاه دولة الكويت وشعبها، يؤكد أن دول الخليج لن يهدأ لها بال حتى تعود الكويت، وأن قضيتها هي الشغل الشاغل لأهل الخليج.

وعبر عن ذلك بقوله: «الكويت هي إحدى الدول التي تشكل الأسرة الخليجية في إطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية، فإذا وقعت أي واقعة على الكويت فنحن أعضاء المجلس الخليجي للتعاون ككل لا نجد من الوقوف معها بدا مهما حدث، فهذا شيء نعتبره فرضاً علينا يمليه واقعنا وتقاربنا وإخوتنا، نحن جسم واحد ما يصيب أحد أعضائه من ضرر يصيب الآخر وكما يواجه الإنسان الخطر عندما يقترب منه ويداهمه فإن عليه أن يواجهه بمثله».

واعتبر، رحمه الله، قضية تحرير الكويت قضية مصيرية للمجتمع، حيث قال: إن دولة الكويت ستعود حرة كما كانت قبل الاحتلال الغاشم، لأن قضية تحرير الكويت تعد موقفاً مصيرياً للمجتمع الدولي تأكيداً للمبدأ الذي يقضي بحرمان المعتدي من الاستفادة من عدوانه، وحرصاً على استقرار المنطقة والشرعية الدولية.

دروس من الأزمة

1 اختارت الإمارات فوراً موقف الوفاء للشقيق الكويتي، وهو موقف لا يستند إلى العلاقات التاريخية بين البلدين والشعبين فقط، ولكنه موقف وفاء إزاء الحق، ثم تجاه القانون الدولي.

2 أثبتت الأزمة أن الدولة الاتحادية ضرورة تاريخية، تحتمها المعطيات والوقائع على الأرض، وليست مجرد ارتباط عاطفي، كما أثبتت أن الدولة الاتحادية هي الأقدر على مواجهة التحديات الاستراتيجية.

3 أثبتت الأزمة عمق العلاقة بين قيادة دولة الإمارات وشعبها، فما أن تمت الدعوة إلى التطوع للإسهام في تحرير الكويت حتى لبّت جموع الشباب الإماراتي النداء، في تعبير وطني عن الانتماء والولاء.

4 إن ثقة المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال بالاقتصاد الوطني والقطاع المصرفي هي حجر أساس، لا غنى عنه وعن إحاطته بالمصداقية في أشد الظروف حلكة وقسوة.

5 الشعوب تدفع ثمن السياسات المتهورة، لا سيما أن بعض الأخطاء التكتيكية تكون أحياناً ذات نتائج استراتيجية كارثية، لا يمكن تلافيها أو الحد من أضرارها العميمة.

6 الأحداث والهزات الكبرى تحدث تصدعات في منظومة العلاقات واختلالاً بالوعي، ولا يمكن معها أن يبقى الواقع كما هو، ولا بد من أن تُغيّر فيه بتعسف.

7 البنية التحتية المعدة للأنشطة المدنية من تجارة وتصدير وسياحة وخلافه، هي مقومات وطنية في وقت السلم، وهي كذلك ذخيرة وطنية في أوقات الحرب.

8 لم يكن من الممكن أن يقود إلى مكاسب من أي نوع للعراق؛ فالقيادة التي اتخذت قرار الاجتياح، كانت قد اتخذت، في واقع الأمر، قراراً بالمغامرة ليس ببلدها فقط، بل بالمنطقة برمتها.

9 لم تكن الصدمة تتعلق بالمفاجأة من جانبها العسكري، بقدر ما كانت تتعلق بالجانب الجارح، المتمثل في انهيار الثقة بالشقيق والأخ، الذي تجاوز كل الاعتبارات وأقدم على فعلة لا تغتفر.

Email