قراءة

مبادئ رصينة ووصايا ثمينة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في تغريدةٍ جميلةٍ مُفعمةٍ بالحس الإنساني الرهيف، يخاطب صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، مواطني دولة الإمارات، شاكراً لهم محبتهم الصادقة، ومؤكداً أنه قد فاز بخدمة وطنه على مدى خمسين عاماً مضت، أخذ خلالها الخبرة وبعض الحكمة والكثير من المحبة، ثم شفع ذلك بوضع ثمانية مبادئ للحكم في إمارة دبيّ، مؤكداً بوصية حازمة ضرورة الالتزام بها والسير على هُداها في المستقبل ضمانةً لحق الأجيال القادمة، مهما كانت الظروف، ومهما تبدلت الأحوال، أو تغيّرت الوجوه.

والمبادئ في العادة تكون ثمرة الخبرة المستنيرة، والتجربة المتبصّرة، والعمل الدؤوب الذي يقطف الإنسان ثماره، ويستطيع ببصيرته أن يميّز بين مسارات النجاح والإخفاق، فحينها يُحدِّق الإنسان في مجمل التجربة، ويعيد تشكيل الوعي بها على شكل مبادئ رصينة ووصايا ثمينة، ويقدمها للأجيال القادمة تجنّباً للأخطاء السابقة والمزالق التي تتكشّف مع التجربة.

ولعلّ أوّل ما يلفت النظر في هذه المبادئ أنها مفتوحة الأفق على الزمن، فهي قد تأصّلت في تجربة الحكم في دبي، ويسير عليها سموه في حُكمه الآن، وهي المدوّنة التي يطلب من الجميع الالتزام بها في المستقبل، فهي بنتُ الخبرة والتجربة السديدة، وليست من مقترحات العقل المثالية، بل تم اختبارها وتمحيصها حتى تشكّلت القناعة بها والدعوة إليها.

المبدأ الأول: «الاتحاد هو الأساس»، تنطلق هذه المبادئ الرصينة المُحكمة من حقيقة ساطعة الوضوح عميقة التجذر في الوعي الوطني هي فكرة الاتحاد، أعني اتحاد دولة الإمارات التي تم من خلالها صنع هذا الوطن النموذج منذ الرعيل الأول الذي حمل أعباء التأسيس، ونهض بأثقال البناء، وغرس أشجار العطاء، فدبيّ، على لسان صاحب السموّ، هي جزءٌ أصيل من الاتحاد، تتمسك به وتتحمل مسؤوليات الانتماء إليه، غُنْماً وغُرْما، وخيرها لكل الإمارات، وتضع عن وعي وتصميم مصلحة الاتحاد فوق كل مصلحة، لأنها تعلم أن سبب قوة الوطن هو اتحاد القلوب والعقول والإرادات التي تمكنت بفضلها الإمارات من الوصول إلى هذه المكانة المرموقة بين دول العالم.

أمّا المبدأ الثاني فهو: «لا أحدَ فوقَ القانون»، وهذا هو صمّامُ الأمان لجميع المجتمعات الساعية إلى السلم الاجتماعي وتحقيق نظرية التقدم، وهو المنهج الذي تسير عليه الدول المتحضرة الآن، وهو جوهر النظرة الشرعية للحياة، وكيف لا يكون ذلك كذلك وقد قال المصطفى، صلى الله عليه وسلّم، بشأن ابنته فاطمة، وهي أحبّ الخلق إليه: «والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يَدَها»، وفي هذا السياق يؤكد سموه أنه لا يستثني أحداً من الأسرة الحاكمة في دبيّ من سِراية هذا القانون عليه، لأنّ الشعوب تحترم القانون وتتقيد بتعاليمه حين تراه مُطبّقاً على الجميع، وواضحٌ أنّ لغة سموه في غاية الوضوح والحزم بخصوص هذا المبدأ لضخامة أثره الإيجابي إذا تمّ تفعيله، وسوء أثره السلبي إذا أصبح حبراً على ورق وألعوبة بين فقهاء القانون وقضاة المحاكم، فالعبثُ بالقانون هو الطريق المظلم نحو الظلم، ولا تُفلح أمة يسود فيها شريعة الغابة، ويتحكم بالحقوق أصحاب النفوذ على حساب الضعفاء والمساكين، وقديماً قال ابن تيمية، رحمه الله: «إنّ الله لينصر الدولة العادلة وهي كافرة، ويخذل الدولة الظالمة وهي مسلمة»، ومن نظر في الواقع لاح له صِدقُ هذه المقولة في الحياة.

المبدأ الثالث: «نحن عاصمة للاقتصاد»، وهذا المبدأ من أجل تحديد الوجهة الحقيقية للإمارة، وأنها تنأى بنفسها عن السياسة، فهذا المبدأ يمنحها فرصة التركيز والإبداع، وعدم إضاعة الوقت في الأمور الأخرى التي هي ليست من أهداف السياسة العامة للإمارة، فضلاً عن تبديد مخاوف المستثمرين الذين لا يقتربون من المناطق الّتي تشهد توتراً سياسياً أو صراعاً داخلياً، فلهذا ولغيره من الأسباب جاء هذا المبدأ الثالث لضمان الوجهة الصحيحة لدبيّ في سياق فاعليتها الاقتصادية بين إمارات الاتحاد، وهذا نوع من التخصص المفيد الذي يوفّر الطاقات ويصونها عن الهدر والتبديد.

المبدأ الرابع: «النموّ له محركات ثلاثة»، وهو تلخيص مكثف لبنية الاقتصاد العميق لدبي المتشكل من الحكومة المتمتعة بمصداقية حقيقية بسبب شفافيتها الإدارية، ومرونتها على مستوى الأداء، وحرصها على التميز الذي يدفعها نحو مزيد من اقتراح المشاريع وتجديد الاتجاه نحو مزيد من الاستثمار الجاذب لرؤوس الأموال العالمية، يساندها في ذلك قطاعٌ خاصٌّ نشيط وفعّال يتحمل قسطاً كبيراً في المحفظة الاقتصادية، ومن ورائه قطاعٌ شبه حكومي قادر على المنافسة العالمية وتحريك الاقتصاد المحلي، من خلال ثلاثية متكاملة تتلخص على النحو التالي: توفير دخل للحكومة، ووظائف للمواطنين، وأصول مالية للأجيال القادمة.

المبدأ الخامس: «مجتمعنا له شخصية متفردة»، وهذا المبدأ لضمان الهوية الذاتية للمجتمع، وأن هذه الشخصية نابعة من التقاليد الحضارية للإمارات التي تتلخص في جوهرها في الوعي المتحضر بالحياة، من خلال التركيز على قيمة العمل وتعظيم شأن الإنجاز كما هو شأن الشعوب المتحضرة المنتجة، مع الابتعاد عن الجدل ومظاهر الترهل الإداري التي ترهق الدولة وتزيد من أعبائها، وربما كانت هذه الظاهرة هي أمّ المشكلات في إدارة الدولة العربية، فجاء التحذير منها بسبب الخبرة الدقيقة بنتائجها السيئة، فضلاً عن ضرورة الالتزام بالموعد وإشاعة أجواء الثقة في التعامل، مع ضرورة التواضع في حالات النجاح والإصرار على النجاح في حالة الإخفاق، وشيوع روح التسامح بين الجميع والنأي بالمجتمع عن جميع مظاهر العنصرية وأسباب الكراهية التي تحطم المجتمع وتنخر أساسه العميق، ومحبة الوطن هي الأصل المفترض في الإنسان إلا من أثبت القانون سلوكاً آخر له، مع الضبط التام لهيبة القانون من خلال أهل الاختصاص وعدم السماح بتسيّب المحتوى القانوني للدولة بتقليده لغير المختصين.

المبدأ السادس «لا نعتمد على مصدر واحد للحياة»، وهذا المبدأ هو مقتضى النظرة الصائبة للحياة، وهو من الممارسات القديمة للإمارة، لأن تغير إيقاع الحياة ودورة الزمن لا يسمح بالاسترخاء والاعتماد بالكلية على مصدر وحيد للاقتصاد، فهذا مقتلٌ واضح لا أمان معه لعجلة الحياة، ومن هنا فإن خطة دبيّ هي استحداث عجلة اقتصادية دورية كل ثلاث سنوات لضمان استمرار تعدد مصادر الدخل وتنويع الثروات.

المبدأ السابع: «دبي أرضٌ للمواهب»، وهذا هو الشكل الآخر لتنويع مصادر الدخل، فإنّ الدول القوية اقتصادياً هي التي تعتني بجذب المواهب المبدعة، وتمتلك القدرة على الاحتفاظ بهم، ودبي تعي ذلك جيداً، لذلك فهي تراهن على مستقبلها من خلال هذا المنظور، وأن تكون الموهبة والذكاء والإنجاز المتميز هي المعايير التي تتحكم في بناء الجسم الوظيفي للدولة، وبغير ذلك ستكون الدولة عرضة للترهل، وتكدّس الطاقات الخاملة التي تحتاج إلى من يقوم بها وينفق عليها، ولذلك فإنّ هذا المبدأ هو واحدٌ من الضمانات القوية لمستقبل دبيّ المشرق المتقدم بفاعلية العقول والمواهب الخلّاقة.

المبدأ الثامن: «نفكر بالأجيال»، وهذا المبدأ يجمع بين الطابعين الاقتصادي والأخلاقي، فضمان حق الأجيال القادمة هو حقٌّ أخلاقي لهم يعمل على توفيره الأجيال التي تتولى إدارة الحياة قبلهم، وهو ذو طابع أخلاقي، لأنّ التفكير في مستقبل الأجيال القادمة يدفع نحو مزيد من التفكير العميق بخصوص تقوية الاقتصاد وتنمية آفاقه وتسريع وتيرته، فبغير ذلك تبقى مسألة تأمين الأجيال القادمة أمنية أبويّة، لكنها تحتاج إلى جهود حثيثة للتحقق، ومن هنا فإنّ إمارة دبيّ تعمل جاهدة من أجل خلق أصول استثمارية للأجيال القادمة من خلال العمل الدؤوب الذي يقتضي أن تمتلك الحكومة أصولاً ماليةً تعادل عشرين ضعفاً من الميزانية السنوية للإمارة، وهذا مطلب يقتضي التخطيط السليم والإدارة الحازمة والتنفيذ السديد.

أطال الله في عمرك يا صاحب السموّ وأبقاك ذخراً للبلاد والعباد.

 

Email