المحمّدان.. قراءة في ثقافة الإخاء

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

حين كتب صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلّحة، قصيدته الرائعة «أخوي محمد» قبل فترة من الزمن، شعرتُ بقشعريرة تسري في الروح، بسبب هذا التركيب البسيط في صياغته، الباهر في دلالته على عُمق المحبة وأصالتها، وصلابة الأخوّة ورصانتها، فهذا الرجل الفارس الشجاع المتمرس المتحمل أصعب المسؤوليات في حماية الوطن لم يجدْ كلمة أكثر رِقّة ولا أعمق دلالة، ولا أبهى بهاء من كلمة «أخوي» وكأنه يطوي الزمن ويسترجع لحظات الصفاء حين كان يعيش مع سَميّه وصديقه وعضيده وشقيق روحه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، في ظلال اليَفاعة الأولى بين يدي حكيم البلاد، وسيد الفرسان المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد، رحمه الله، معبراً بذلك عن محبة صادقة وأخوَّة نادرة غدت نموذجاً يُحتذى في مجتمع الإمارات، ومنذ ذلك الحين انطوت جوانحي على رغبة صادقة في كتابة كلمة ضافية صافية عن هذه المطارحات الوجدانية بين هذين الفارسين الكريمين: خُلُقاً ومنبتاً، وتواضعاً وإنسانية، وفروسية وشعراً، وإدارة حازمة حكيمة رحيمة لدولة غدت في طليعة الدول المتقدمة: إنساناً وقيادة وإنجازات ومعرفة وثقافة ومحبة للحياة والإنسان.

أما بو راشد، شيخ القوافي ونبع الشعر المتدفق الغزير فقد قابل هذا الحب بحب مثله، وكيف لا يكون ذلك؟! وهو الرجل المُصفّى مثل عروق الذهب الكريم، فكتب غير واحدة من القصائد التي تحتفي بأخيه وعضيده صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولعلّ القارئ الكريم يتذكر قصيدة (عاش بو خالد)، التي أبدع فيها صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في الحفاوة بأبي خالد، وقُلْ مثل ذلك في قصيدته الرائعة ( ترحيب)، حيث كتب هذه القصيدة من عين عين المحبة، وقبل ذلك كان قد كتب قصيدة (رُبّان البلاد)، حيث أبدع في الدلالة على ملامح العبقرية القيادية في شخصية صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ثم كانت خاتمة القصيد في قصيدته المدهشة (خمسين عام)، التي جادت بها يَراعُه قبل عِدة أيام تعبيراً عن شكر الحفاوة التي سطّرها صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في كلمته الصادقة الدافئة التي دبّجها بمناسبة العام الخمسين لتولّي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم مسؤولياته القيادية، وهي الكلمة التي لاقت ترحيباً كبيراً من المواطنين ورأوا فيها نموذجاً رائعاً للإخاء وتقديراً للإنجازات فما كان من أبي راشد إلا أن امتشق قلمه الساحر وكتب قصيدة (خمسين عام) تعبيراً عن هذه اللحظة التاريخية الخالدة في تاريخ الوطن، وهو يحتفي برجالاته الكبار، ويسطّر إنجازاتهم بأحرف من نور، ويقدّم للأجيال القادمة نموذجاً في العمل الدؤوب والتقدير الرصين لكل ملمح من ملامح الإنجاز والإبداع.

وفي هذه الأجواء البهيجة التي يعيشها الوطن يطيبُ لي أن أستعيد مع القارئ الكريم شيئاً من أصداء تلك القصائد الدافئة التي دارت بين فارسَي البلاد، ويا ليتَ المقام كان متسعاً للوقوف عند جميع هذه القصائد النابضة بالمحبة، الناطقة بالإخاء النبيل، لكن المقام يضيق عن ذلك فأجدني مضطراً للوقوف عند الجزء الدال على الكل.

في الثالث عشر من أبريل 2017م كتب صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم قصيدته الاستثنائية (رُبّان البلاد)، التي أشاد فيها بمناقب صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، مستحضراً في بداية القصيدة طيف المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان، وهو يسأله عن أحوال البلاد والعباد، ويصل صاحب السموّ بو راشد إلى تخوم رِقّة عجيبة وهو يغالب شوقه وحنينه إلى وجه شيخه ومُعلّمه، لينفذ من خلال هذا السؤال إلى جوهر القصيدة الموجهة أصالة إلى صاحب السمو بو خالد، لكن هذا المطلع الشجي منحها عمقاً وجدانياً جعلها تتغلغل في قلب القارئ وهو يتذوق هذا الغناء البديع الصافي:

زارني الطيف الذي ما يرحلي

صاحي آشوفهْ وفَ أحلام الرقاد

طيف زايدْ لي بذكره تَكملي

راحتي وإن عاد طيفه الخير عادْ

دوم يسألني السؤال المِطولي

حتى في غيابهْ نهمِّه بالوكادْ

وقلتْ له يا والدي لا تسألِ

دامهْ محمدْ لنا عزّْ وسِنادْ

وقلتْ له ما يستريح مواصلي

النهارْ بليل ما يعَرْف الوساد

في موازاة هذا المطلع البديع لهذه القصيدة الرائعة جاء مطلع قصيدة (أخوي محمد) معبراً أبلغ تعبير عن صفاء المحبة والمنزلة الرفيعة، التي يتبوأها صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في قلب صاحب السموّ بو خالد، ولنستمع معاً إلى هذا الكلام المُقطّر بالمحبة والمعطر بالصفاء حين نقرأ هذا المطلع الزاهي البديع:

تِقبل الأيام بحمولٍ ثِقالْ

وتنثني إن صادفت منكب صمِلْ

بين دورات الليالي والنزال

ما يفوز إلا من يعاضد رجل

والرجال أنواع والوقفه سِجالْ

حدِّ يرهبها وحد منها يِفلّْ

ذاك أخوي محمد اللي يوم قالْ

كِلمته ما تنثني قولْ وفِعلْ

طوّع الصعبات لين العود مالْ

وانطوت في قبضته طيّ السجل

إنّ الهدف المباشر من هذه القراءة ليس هو التحليل الشعري وتفسير مقاصد الشاعرين الكبيرين، بل الهدف هو استعادة أجواء اللحظات الوجدانية الصادقة الدالة على عُمق المحبة وصفاء المودّة بين هذين القلبين الكبيرين، فكلاهما يعرف قيمة عضيده، وكلاهما لا يعتمد بعد الله تعالى إلا على أخيه، فقد أثبتت الأيام أصالة معدن الفارسين، وصفاء قلب الأَخوين.

فكانت هذه القصائد تتويجاً لهذه المحبة الراسخة الجذور، وتخليداً لعُمق الأواصر التي تجمع بين هذين النجمين اللامعين في سماء الوطن، وليكون ذلك حافزاً للأجيال القادمة كي تتشبع أرواحها بثقافة المحبة، وتتشرب عقولها أنغام الإخاء، وكيف لا يكون الوطن بخير وهو يرى رؤوسه الكبرى تنشر الأحاسيس الصادقة بين أبناء الوطن، وتُدرّب الأجيال الطالعة على الصدق الأخلاقي والنبل العاطفي والفروسية السلوكية والعملية، فهذان الفارسان منذوران لخير البلاد، والسير الحثيث في طريق رفعة العباد، فإذا اتفق الهدف اجتمعت القلوب على المحبة والصفاء، وانبعثت هذه الأنغام الطيبة من ربابة الوجد والحب والانتماء.

ونتابع مع بو خالد هذا الغناء الصافي، ونتذوق بالقلب والروح هذه الحفاوة الباهرة بشيخ القوافي والسياسة والإدارة (بو راشد) الذي لا تطيب له الصلاة بعد الفرائض إلا في محراب خدمة الوطن، فهو مسكون القلب بمحبة هذه الديار، ولا يكاد يغمض له جفن من كثرة التفكير بكل الوسائل التي تنهض بها وتضعها على خريطة العالم المتحضر المتقدم:

يا منار العلم ما لي عنك فال

ضوّ علمك في سما العالم شَعلْ

سيدي يا اسناد عزمي بكل حال

والصعود ويّاك جنّبنا الفشل

إن لقيت ليّه على الصعب احتمال

مَدّةِ إيدك خلّت الكايد سَهَلْ

والله إنك يوم صكّات الجبال

سيف يُمنى حدّك رهيف النصل

وهل يشكّ عاقل في روعة هذه المعاني التي تغرس في قلوب القراء أعمق معاني المحبة والتكاتف والانخراط الباسل في سبيل خدمة الوطن مع الاعتراف الجليل بقيمة كل من يقدم خدمة للبلاد الطيبة، وفي طليعة هؤلاء جميعاً يتقدم بو راشد الصفوف جميعاً، فهو الفارس المقدام، وهو القيدوم الذي لا ينظر إلى الوراء بل يغامر بكل شجاعة، ويستحثّ الهِمم في سبيل الارتقاء بالوطن إلى الذرى العالية التي يستحقها، يسانده في ذلك سيف البلاد ورمحها بو خالد، الذي لا يكتفي بالعمل الدؤوب الكبير بل يخلّد هذه اللحظات شعراً جميلاً ومعنى نبيلاً سيكون ذخراً للوطن حين نعيد كتابة تاريخه المشرق الجميل.

ومن بعيد يرتفع صوتُ (بو راشد)، مؤكداً الزعامة المستحقة لسميّه وعضيده (بو خالد)، مرسّخاً في وجدان أبناء الوطن أن الإمارات كلها متلاحمة متكاتفة خلف قيادة واحدة تتنافس على خدمة الوطن، وتتسابق في سبيل رفعته، ولا تسمح لأي كلمة من هنا أو هناك أن تشق الصف أو تبذر بذور الفرقة بين هذه الأيدي المتعاضدة على حب الوطن، وتقديم الغالي والنفيس في سبيل خدمته ورفعته:

وشعبنا خلف الزعيم مكمّلي

خلف بو خالد يسير الاتحادْ

لهْ أقول وله أبيح مزمّلي

شيخ ووصوفه على السبع الشداد

يا أخويهْ وصاحبي وأغلى هَلي

إنتَ يا محمدْ لدولتنا سنادْ

فيك من زايدْ سخاه الأولي

وقوّة أعصابه وجدّه ولاجتهاد

وانت وارث مجدهْ اللّي معتلي

وإنت حارث تزرع الأرض اقتصادْ

وأنت يا بو راشد قمر البلاد وشمسها، فما أسعدنا بك ونحن نتعلم منك هذه القيم العظيمة النبيلة، وما أعظم حظّ الإمارات من المجد وهي ترعاها هذه العيون الأصيلة المكتحلة بالمجد والرجولة وكرم الأخلاق، وكيف ستكون ثقافة المجتمع الراشد وهو يرى قادته وسادته وهم يحملون أرقى المناقب، لا شك في أن الأجيال الصاعدة ستغمرها سعادة الوئام وأنوار الألفة وهي ترى هذه الهامات العالية تجسد النماذج الرائعة للمحبة والتعاون والتفاني الصادق في سبيل خدمة الوطن وأناسه الطيبين.

ويواصل بو خالد حفاوته بأخيه، ويرفع من مقامه بأسلوب مدهش حين يجعل منه تاجاً للعز الذي تفتخر به البلاد، وحين يذكر مآثره في تحمل الصعاب والحفاظ على مقدرات الوطن فيقول:

تاج راسي عزّ في سود الليالْ

عزوتي وإن غلق للشيمهْ سبل

كم للدولة نَقَلْ كِتفك وشال

إن خلص فرضك تليته بالنفَلْ

ويا لروعة هذا التعبير البديع الجامع بين الفرض والنفل في إشارة إلى استغراق صاحب السمو (بو راشد) في العمل الدؤوب المتواصل، ويبلغ صاحب السمو قمة المحبة حين يجعل من حبيبه وشقيقه تاجاً للرأس ومعقداً للعزّ، وهل تجود الكبار بالمجد إلا على الكبار، فهو السندُ والعزوةُ وهو شيّالُ الحمول الثقال حين كانت الإمارات تبحث عن ذاتها الحضارية وشخصيتها الوطنية، وحين كان رجالها يغوصون في قاع البحار للبحث عن فرائد اللؤلؤ، وها هي اليوم تُطاول كبار العواصم العالمية في التقدم والإنجاز.

ويجيء الصدى من بعيد منوهاً بالتضحيات التي يقدمها بو خالد عين الوطن الساهرة، والمنفرد بحمل الهموم والحمول التي لا يقوى عليها إلا صناديد الرجال، تأكيداً من صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم على ضخامة المهمات التي يقوم بها صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان:

تحملْ الحمل الذي ما يحملِ

ودوم حملك للشدايد بانفرادْ

وحافظٍ تاريخ هَلَكْ الأوّلي

مجدْ لولا همتك أمسى رمادْ

كَنِّكْ إنت الغيث ساعة يهطلِ

رحمةٍ للناس ويعمّ العباد

واعترافاً بفضل صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في بناء الدولة في مرحلتها المبكرة، وتأكيداً على حماية ثرى الإمارات وصيانته من كلّ مَنْ تسوّل له نفسه الاقتراب من حماها، يؤكد صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان هذا المعنى بقوله قاصداً بذلك أخاه صاحب السموّ (أبا راشد) الذي خطّط وواصل تعب الليل بالنهار حتى وصلت الإمارات إلى هذا الأفق العالي والمدار الفريد:

مِنْ رِسمْها قبل يبني عَ الرمالْ

يا أخو محمد له إيردّ الفضل

نفتديها بكل حال وكل مال

مجدنا بالروح والدم انكفل

ومن يحسب ديارنا لقمهْ حلال

إن شهرنا سيوفنا ما تنوصل

وفي مقابلة هذه الجهود الجبارة في البناء التي أعلى صروحها صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ينعطف (بو راشد) للتنويه بالمسؤوليات الجسام التي يتحملها صاحب السموّ (بو خالد) وهو يسهر على أمن الوطن وحماية ثراه، ويتسلم أمانة الجيش كونه نائباً للقائد الأعلى للقوات المسلحة، وما يقتضيه ذلك من بذل جهود خارقة مُضنية في سبيل أن تظل الإمارات مهيبة الجانب، موفورة الحظ من الأمن فيقول:

لك جنودٍ في الرضا تتعجّلِ

جيشْ في أمركْ وقابضْ عَ الزنادْ

يا ذخرنا للزمان المِجبلِ

ويا درعنا للظروف اللّي حدادْ

البحر لو يبذل اللي تبذلِ

كان جفْ وصارتْ أمواجه زبادْ

وكما جمعهما حب الوطن، فقد جمعهما الحرص على مصلحة الأجيال القادمة، التي ترى في هذين الفارسين نموذجاً للقدوة القيادية والأخلاقية وهم يرون هذا النبل الذي يتجلى في هذه القصائد التي تحتفي بكل القيم الشريفة في الحياة، وتدفع بالأجيال إلى التمسك بفضيلة العمل والتعاون والتكاتف في سبيل مجد الوطن، فيقول صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد مؤكداً هذه المعاني السامية:

عَهدنا لعيالنا ما به انتشال

وعهدهم إلنا بَعَدْ ما ينتشِلْ

عالعهود اجيال تتوارث اجيال

في بناها لا تكلّ ولا تملّ

ويحفظ الله بلادنا من شين فال

ينعِمون شعوبها في طيب ظلّ

شرّفتني بالمعاني والمقال

ولا يفوز إلا من يعاضد رجل

وتأكيداً على هذه المعاني الراسخة في وجدان الشعب الإماراتي يؤكد صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم المكانة الفريدة لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان وأنه جبل من جبال الحكمة والعمل الراسيات، وأن حنكته في إدارة شؤون الدولة هي في دورها مثل الجبال التي تحفظ الأرض من الزوال والمَيَدان، فالقائد الحكيم الشجاع هو الذي يضبط إيقاع الحياة في شعبه ويوجهه نحو المصالح العليا للوطن، ولا يسمح بهدر الطاقات في ما لا نفع فيه ولا طائل تحته، فكانت هذه الخاتمة البديعة لهذه القصيدة الوجدانية، التي َتشِفُّ عن عمق المحبة وأصالة المشاعر المتبادلة بين هذين الفارسين الكريمين:

والجبال الراسيهْ بك تثقلِ

يا جبل لولاه وجه الأرض مادْ

كل شعبك عند أمرك ينزلِ

ما لهم غيرك يا رُبّان البلاد

وبعد: فهذه قراءة متواضعة لنموذج عالٍ متفرد من نماذج المطارحة الشعرية بين هذين الكبيرين الشاهقين، كتبنا منها ما يسمح به المقام، ولو أطلقنا للقلم العنان لاحتجنا إلى أضعاف ما كتبناه، لكن في لَمعة الذهب ما يدلّ على أصالة الجوهر، وفي القليل من ذكر مناقب الكرام ما يدلّ على الكثير والكثير من سجاياهم الطيبة وشمائلهم العالية الرفيعة.

Email