شعراء ومثقفـون لـ « البيان » : سـتخلـدها ذاكرة الوطــن ووجـدانه

وترجلت «فتاة العرب» عـن صهوة جواد القصيد

ت + ت - الحجم الطبيعي

بمخزون أدبي وثقافي أثرى الحياة الأدبية والثقافية في الإمارات، ودعت «فتاة العرب» محبيها في ليلة اتسمت بوابل من التفاعلات، وسيل عارم من الحزن المشوب بالاحترام، لتلك القامة الإماراتية الرائعة، لتنتقل، مغفوراً لها بإذن الله، إلى الدار الآخرة، حيث رحلت الشاعرة الإماراتية عوشة بنت خليفة السويدي عن عالمنا عن عمر ناهز الـ 98، في أجواء استقبل من خلالها محبوها هذا الخبر بحزن شديد، راضين بقضاء الله وقدره، إذ عبروا عنه من خلال التغريدات التي نعتها ساعة انتشار الخبر.


"البيان" استطلعت آراء عدد من المثقفين والباحثين الإماراتيين حول أهمية الشاعرة الراحلة وما يشكله رحيلها من فراغ..إذ شددوا على أنها ستبقى خالدة حية في ذاكرة ووجدان الوطن حتى ولو ترجلت عن صهوة القصيدة.

وبينوا أن شتى المبدعين استقوا من معينها، ووردوا واحة أدبها الغني بالنتاجات التي حفرت اسمها في عداد كبار الأدباء والشعراء خلال القرن المنصرم والحالي..مشيرين إلى أن الشاعرة عوشة بنت خليفة السويدي قامة وطنية شعرية أوجدت لنفسها مكانة هامة تفردت بها..وأنها ستبقى عنواناً للإلهام والإبداع المتفرد.

موسوعة
تحدثت الدكتورة رفيعة غباش للبيان عن الشاعرة الراحلة، حيث استشعرت مؤشرات الرحيل في الأسابيع الأخيرة، وتشعر بالامتنان أن منحها الله سبحانه وتعالى فرصة لقائها والتعرف إليها عن قرب، بعد رحلة بحث استغرقت شهوراً عدة، حتى التقت تلك القامة الأدبية والإنسانية، ليس على مستوى الإمارات فحسب، بل حتى المنطقة العربية، وهي التي كتبت النبطي وكتبت أيضاً عدداً من القصائد الفصيحة.

وتضيف د. رفيعة أن المغفور لها كانت شاعرة مسكونة بحب هذا الوطن، وترجمت هذا الحب في قصائدها التي تعتبرها غباش موثقاً هاماً للشباب من الجيل الحالي للاطلاع والمعرفة.

فهذه الرحلة التي استغرقتها الدكتورة في حياة الشاعرة عززت ثقافتها المحلية وفهمها للشعر الشعبي وبيئة الإمارات الطبيعية، فكانت الموسوعة التي ضمت سيرتها وقصائدها مرجعاً لمن يرغب بأن يفهم ثقافة بلده الإمارات.

وذكّرت الدكتورة رفيعة غباش بالتسجيلات الصوتية للشاعرة التي ألهمتها فكرة بحث أخرى في هذه التسجيلات التي كانت ضمن مقتنيات والدتها المغفور لها بإذن الله تعالى عوشة بنت حسين، حيث كانت تجمع بين الراحلتين علاقة صداقة، وهذه التسجيلات التي ضمت 26 قصيدة أوصلتها في رحلة بحث للمزيد من القصائد، حتى بلغت 150 قصيدة، قدمت في مشروع تبناه مركز حمدان بن محمد لإحياء التراث، وكان عبارة عن أربعة أقراص مدمجة بصوت الشاعرة فتاة العرب لقصائد كان بعضها لشعراء من الخليج من ضمنها قصيدة مشهورة للشاعر عبد الرحمن المبارك، وهي مرجعية للجيل لكي يعرف كيف ينطق الشعر النبطي في الإمارات من خلال قصائد «فتاة العرب».

وختمت حديثها بأن الشاعرة عوشة السويدي قد عادت بعد اعتزالها بإرادتها ورغبتها وبصيرتها بعد 70 عاماً من حركة ثقافية أدارتها بحنكة وقوة خاصة في الفترة بين 1980 و1996 حيث كان الحوار الشعري مكثفاً بين صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم وبينها، وهو الذي حرك الساحة الشعرية في دولة الإمارات خاصة المرأة الشاعرة لينطلقن بأسمائهن دون الحاجة لأسماء مستعارة.

مساجلات
الشاعر سيف السعدي، بدأ حديثه عن المساجلات الشعرية بين صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم والشاعرة الراحلة عوشة بنت خليفة السويدي، الملقبة بفتاة العرب، والتي يعتبرها السعدي علماً قائماً بحد ذاته في فن المشاكاة والرد، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مكانة الشاعرة في قلب فارس العرب.

وقال السعدي: إنها فقيدة الأدب عموماً وليس الشعبي فقط، فهي أديبة من الطراز الرفيع والنادر، مجالستها لا تمل وتحفظ للكثير من شعراء الفصحى، فديوان المتنبي لا يبرح صالة مجلسها، وحيث ما تجلس يرافقها الديوان، تسدي النصح لكل مبتدئ تعرفه عن قرب وتسانده وتشجعه، ولا أنسى فضلها علي طوال رحلتي الشعرية من بداياتي وحتى وقتٍ قريب، وهي صاحبة برٍّ وإحسان للناس.


ويضيف السعدي: «في بداياتنا تتلمذنا على أشعارها في فترة السبعينيات عندما كانت تغنى قصائدها من قبل الفنان علي بالروغة قبل سطوع نجم الفنان ميحد حمد، حتى إنني كنت أزن قصائدي على أوزان وبحور أشعارها.

ونحن إذ نعزي بوفاتها نعزي الشعر ونعزي أنفسنا قبل أن نعزي ذويها في مصاب الجميع».

ظاهرة
من الظواهر الشعرية النادرة التي لن تتكرر يوماً ما.

بهذا بدأ راشد المزروعي، الباحث في التراث الشعبي، حديثه، إذ أكد أن الشاعرة عوشة بنت خليفة السويدي، هي الشاعرة الشعبية الأولى ليس في الإمارات فحسب، ولكن على مستوى الخليج تكاد تكون أيضاً الأولى في فن قول الشعر وصياغة الكلمة بأسلوب جميل وراقٍ يتخلله عبق الماضي وجمال الحاضر.

وأوضح المزروعي أن عوشة بنت خليفة، أو «فتاة العرب» كما اشتهرت لاحقاً، تكتب الشعر منذ الأربعينيات، ولذلك فإن شعرها جميل بمفرداته التراثية البدوية الأصيلة، وكذلك بالمفردات الحديثة الكثيرة التي دخلت علينا منذ بداية تطور الإمارات وظهور النفط وقدوم السيارات والطائرات ودخول التعليم الحديث؛ فهي أول من أدخل السيارات في الشعر الشعبي في الخمسينيات الماضية، ولحقها الشاعر الكاس والكندي والجمري وغيرهم.

ويستطرد: تحدت «فتاة العرب» شعراء عصرها من الرجال، حتى إنها تفوّقت على الكثير منهم، وبذلك تصدرت المشهد فأصبح قصيدها على كل لسان، وأصبح يعرفها القاصي والداني والصغير والكبير؛ لذا أصبحت هي النموذج النسائي الحر المقتدى في مجال النبوغ الشعري، وعلى نهجها سارت شاعراتُ كثيرات على مستوى الإمارات.

ويضيف راشد المزروعي: هي أول شاعرة تشتهر عن طريق أشرطة الكاسيت وقبلها مسجلات البكرة، وبذلك أصبح صوتها مألوفاً عند الجميع ومازالت أشرطتها موجودة لدى الكثيرين، وهي التي ساهمت في حفظ وتوثيق شعرها.

الشاعرة عوشة لم تجارِ الشعراء أبداً، ولكنهم هم من كانوا يتمنونها أن ترد عليهم، ما عدا صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، التي وجدت في قوة شعره ورصانة معانيه ضالتها؛ فكانت تقدّر الكلمة وتميّز الشعر القوي الأصيل فوجدته لدى سمّوه، فجارته وجاراها، ورد عليها سموه بأعذب رد، ورحّب بها، وأبدعت في مدحه والثناء عليه وعلى شعره.

وكانت تقدّر جميع الشعراء الذين جاروها، ولكنها لم تكن ترغب في الرد عليهم.

ويبين المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، قد مدحها في قصيدة مشهورة مغناة عندما أطلق عليها «ركن الهوى»، فقال لها:


يا ركن عود الهوى وفنّه
            شاقني جيلك بالأوصافي

الخ القصيدة.


وردت عليه بقصيدة على نفس القافية.

وهذا بحد ذاته شهادة من المغفور له، الشيخ زايد، رحمه الله، بتفوق شعرها وجمال أوصافها الشعرية. وختم المزروعي بأن شاعرتنا، رحمها الله، تحتاج إلى من يقرأ ويكتب سيرتها من جديد، فهي رمز من رموزنا الثقافية الوطنية، فشهادتنا ناقصة فيها، فهلا نخلد ذكراها بما يليق بها. رحمها الله رحمةً واسعة.

أجيال
وقالت الشاعرة والباحثة شيخة الجابري: حينما وَصَلت إلى حيث مسرح كليات الطالبات بجامعة الإمارات كان الجمع الغفير من الطالبات يفترش أرضيات القاعات المجاورة للمسرح، والرصيف الخارجي أمام النافورة الشهيرة في الكليات، كنّ فتيات يافعات لم يزلن بعدُ في ربيع أعمارهن يحفظن أشعارها، وينتظرن إطلالتها بشغف المحب، المتشوق للقائها، فهنّ يسمعنَ عنها لكنهن لم يلتقينها أسوةً بنا جميعاً، نعشق صوتها قبلَ أن نراها، وكأنّنا جميعاً ينطبق علينا قول الشاعر: «والأذن تعشقُ قبلَ العينِ أحياناً» وهكذا حدث مع عوشة بنت خليفة، التي عشقنا صوتها الشعري مسموعاً ومقروءاً قبل أن نراها.

في تلك الأصبوحة التي أعتقد أنها الوحيدة في مسيرتها الأدبية، وأرجو أن يُصحّح لي إن كان هناك غيرها، تجلت الشاعرية بكل صورها، والإنسانية في أروع ملامحها، والشفافية في أرقى حللها، كانت الشاعرة الكبيرة سعيدة جداً بلقاء بناتها الطالبات، وهي المرة الأولى التي تواجه فيها هذا العدد الهائل من المحبين.

كانت الطالبات يفترشن أرضية المسرح والقاعة، والمسافات بين المقاعد، والقاعات الخارجية، حتى إننا ونحن نجلسُ على الطاولة المخصصة للشاعرة ومقدّم الأصبوحة كنّا في وسط ذاك الجمع الغفير من الطالبات حيث تحلّقن حول الطاولة في مشهد ثقافي مهيب لا ينسى.

وتابعت: من القصائد التي قرأتها في تلك الأصبوحة قصيدة «قل لي يَلي ونّيت مسموح /‏‏‏‏ يا مستريح القلب لمريح».

وختمت الجابري لقد تجلّت في تلك الأصبوحة الشاعرية الفذّة لفتاة العرب، التي يتميز إلقاؤها للشعر بالعاطفة الشديدة، والتأني في الإلقاء، والتمكن من المفردة، والحرص على النطق السليم للكلمات، حتى إنني قبل أن نبدأ جلست معها لأقرأ عليها بعض الأبيات الشعرية التي كنت سأقرأها في التقديم، ومنها أبيات من قصيدة «نسانع في غلاها من رضاها /‏‏‏‏ أوافيها ومن طيب مْعناها» التي قالتها في الراحلة الشيخة ميثا بنت محمد آل نهيان، غفر الله لها وطيب ثراها، حيث كانت صديقة عمرها وحرفها، فصحّحت لي طريقة نطق الأبيات خاصة مفردة «وأوافيها» بأنها تنطق هكذا «أُوّافيها».

كان يوماً فارقاً في مسيرتي الأدبية والشعرية، تعلمتُ منها الكثير، وكنتُ محظوظة بمرافقتها، وحملِ حقيبتها، ولو كنتُ أستطيع لحملتها هيَ على كتفيّ تقديراً ومحبةً وإجلالاً وعرفاناً. رحمة الله عليها قمر الشعر، وقامته، وبرجه الشامخ، وصوته الذي لن تأخذه السنين.

Email