رائعة شعرية ممزوجة بتأمل أسرار الكون

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يزال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، يصر على أن المستحيل لا وجود له في قاموسه.
وإن إصرار سموه يذكّرني بمقولة تروى عن نابليون فرنسا لما قيل له: كيف استطعت أن تولّد الثقة في أفراد شعبك؟ فقال: كنت أرد ثلاثة بثلاثة: من قال لي لا أقدر، أقول له: حاول، ومن قال: لا أعلم، أقول له: تعلّم، ومن قال لي: مستحيل، أقول له: جرّب.

وها هو فارس العرب وفيلسوف الخليج والجزيرة العربية يقرر نظرياته الرائعة محاولاً غرسها في نفوسنا، ومبيناً لنا أن الله تعالى خلق المشكلة وخلق حلها معها، فهو لم يخلق الشر من غير خير، ولم يخلق الليل من غير نهار.

وأنت أيها الإنسان خلقك الله وركّب فيك العقل لتدرك به الأشياء، فإذا لم تستخدم عقلك فالذنب ذنبك ولا تلم القدر، وفي أمثالنا اليومية: القانون لا يحمي المغفلين.

دلالات

تعالوا إذاً نتأمل في أبيات الشاعر الكبير، إذ يقول:


الـصِّـورَهْ الـلِّـي رسَـمـها الـعقـلْ لـلمـعقـولْ
فـيـهـا أحاسـيسْ تـاخـذْ بـالـصِّوَرْ بـرهـانْ
أمَّــا الـمِـجرَّدْ فـمشكِلْ ماحصَـلْ محصـولْ
مِـثْـل الـشَّـرَفْ والـشِّـجاعَهْ مـالـها تـبـيــانْ

نفهم من قول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، أن الإنسان بالتأمل يمكنه أن يفسر الكثير من أسرار الكون، وعقل الباطن بإمكانه أن يستدل بالكثير من هذه الظواهر على وجود أشياء كثيرة لا تظهر للعيان، لكنه، كما قال البدوي حين سئل عن وجود الله: البعرة تدل على البعير، وأثر الأقدام يدل على المسير، ليل داج، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، أفلا تدل على اللطيف الخبير.

ونقرأ لـــ«نيوتن» نظريته الشهيرة أن الأجسام تجذب بعضها بعضاً تبعاً لكتلتها، وتعتمد قوة الجاذبية على مربع المسافة بين الجسمين المتجاذبين.

وجاء بعده «أينشتاين» ليقول بقانون النسبية، فقال: كانت الجاذبية قوة حسب نظرية نيوتن، ولكنها اليوم مجال بحسب النسبية. أقول: وللعرب قبلهما منذ القرن التاسع للميلاد إشارات وتنبيهات إلى مثل هذه الأمور، مما يعني أن على الإنسان أن يُعمل عقله في فهم الأشياء من حوله، والقاعدة الفقهية تقول: إعمال العقل خير من إهماله.

ثم يقول الشيخ محمد بن راشد:

يـاكـيـفْ نــرسـمْ وجـــوهْ لـكـاينٍ مـجـهــولْ
نـحـنـا نـحـسِّـهْ وَلَــكِـنْ نـجـهـلْ الـعـنـــوانْ
لـلـخـيـــرْ والــشَّــرْ والــعــلاَّتْ والـمـعــلـولْ
تـفـسيرْ يـوضَـحْ ويـخـفىَ ويــوزَنْ بـمـيزانْ
والـمـنطـقْ إيـقــولْ أنِّ الـشَّـكلِ لـهْ مـدلــولْ
ولــي مـاتـشوفَهْ بـعـيـنـكْ شـوفَهْ بـالإيمــانْ

نعم... ربما نقف محتارين أمام أشخاص أو أشياء لساعات لا نعرف كيف ندخل الموضوع أو كيف نفهم ذلك الكائن، ولكن لو رجعنا إلى عقل الباطن لربما ظهرت لنا تباشير الصباح فدلنا إلى شيء، وأمسكنا ببدايات الخيوط.

فراسة

والمؤمن بما أنه ينظر بنور الله، يستطيع أن يدرك أسرار الكثير بفراسته، لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: اتقوا فراسة المؤمن... وإلى مثل هذا يشير الشاعر الكبير الشيخ محمد بن راشد، وفي الأمثال المصرية: «عقل المؤمن دليله، والكتاب ينقري من عنوانه».

ومما يُذكر عن المعري الشاعر، وكان أعمى، أنه مر ذات يوم في طريق، فسمع صوت كلب ينبح من بعيد، فقال لمن معه: هذا الكلب مربوط، وعلى شفير بئر، فقيل له: كيف علمت وأنت أعمى؟
قال: لا حظت أن صوت الكلب يتردد إلي من مكان واحد فقط، فعلمت أن الكلب مربوط، ثم لاحظت أن للصوت صدى يتردد، فعلمت أنه مربوط على شفير بئر، فلما تحققوا من ذلك وجدوا كلام المعري صحيحاً.

أجل... بإمكانك أنت أن تستدل بشكل الإنسان على معرفة طبعه، أو من خلال تصرفاته تتعرف إلى طبعه، لذلك يقول الشاعر:

لا تسأل المرء عن خلائقه
في وجهه شبَه من النظرِ

وهكذا نجد الذين يفسرون الرؤى المنامية فإنهم ينظرون إلى شكل صاحب الحلم أولاً، فمما يروى عن الإمام مالك، رحمه الله، أنه دخل عليه رجل، وقال: رأيت في المنام أني أؤذن، فقال الإمام مالك: أنت تسرق.

ودخل عليه رجل آخر في الوقت نفسه، وعرض عليه الحلم نفسه، فقال: رأيت في منامي أني أؤذن، فقال له الإمام مالك: أنت تحج.

يقول الراوي: قلت للإمام تعددت الرؤى وتعدد الحالمون، لكن مضمون الرؤى لم يختلف، فكلاهما رأى أنه يؤذن، فكيف اختلفت إجابتك عنهما أيها الإمام؟

قال الإمام مالك: أما الأول فرأيت شكله قريباً من شكل المجرم أو صاحب الشر، فتذكرت قول الله تعالى حكاية عن إخوة يوسف: (ثم أذّن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون)، ففسرت منامه بالسرقة.

وأما الثاني فرأيت في وجهه سيما الصالحين فتذكرت قول الله تعالى لنبيه إبراهيم عليه السلام: (وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر....)، ففسرت منامه بالحج.

ونقرأ بعد ذلك قول صاحب السمو:

فـلـسِفْ وجــودكْ لـذاتـكْ وإنـتهْ الـمــسؤولْ
إِنْ خـانكْ الفهــمْ وأمسىَ العقلْ بكْ حـيرانْ
ولــكـلْ شـــيٍّ نـهــايِهْ لــوُ الـزِّمــانْ إيـطـولْ
والـخـالدْ الـفِـكرْ ومـاهـي خـالـدِهْ الأبـــدانْ
ومـادمـتْ حَــيْ وتــفـكِّرْ لــي يـزولْ إيــزولْ
بـيـتمْ فـكـركْ طــري لــوُ يـختفي الـجثـمانْ

يحثنا صاحب السمو نحن كمسؤولين على إعمال الفكر، لأن الفكر هو الذي يميز الإنسان عن الحيوان، والشاعر قديماً قال:

دواؤك فيك ولا تبصرُ
وداؤك منك ولا تشعرُ
وتزعم أنك جــِرمٌ صغيرٌ
وفيك انطوى العالَم الأكبرُ

والعالم الأكبر هو هذا الإحساس الذي أمرنا صاحب السمو بتحريكه في الجسم ليعرّفنا إلى مواطن الخير والشر في أجسامنا، فالعقل نور والقلب مشعل، لكن إذا بقيا من غير شحذ فإنهما يقفان عن الحركة والاتقاد، فأنت مطالَب باستخدام عقلك وفكرك طالما أنت حي، والمرء، كما قيل، بأصغريه.

بل أكثر من ذلك، فإن الله يوم القيامة لا ينظر إلى أجسامنا، بل إلى قلوبنا وأعمالنا، ذلك أن خلود الإنسان ليس بجسمه، بل بعمله، والعمل مداره القلب والعقل.

وكما قال سموه: «بـيـتمْ فـكـركْ طــري لــوُ يـختفي الـجثـمانْ»، وسموه بهذه الفلسفة يدعونا إلى العمل وإلى التفاؤل بالحياة، وفي الحديث: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً».
ويقول إيليا أبو ماضي:

أحكم الناس في الحياة أناسٌ
علّلوها فأحسنوا التعليلا
فتمتع بالصبح ما دمت فيه
لا تخف أن يزول حتى يزولا
أدركت كُنهها طيور الروابي
فمن العار أن تظل جهولا
ما تراها والحقل مِلكُ سواها
تخذت فيه مَسرحاً ومقيلا
تتغنى والصقر قد ملك الجَوَّ
عليها والصائدون السبيلا
تتغنى وعمرها بعض عام
أفتبكي وقد تعيش طويلا؟

ثم يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد:

شـفتْ الـحيـاهْ وعِـشِتْها بـينْ عَـرضْ وطـولْ
وماشفتْ أقسَىَ مِنْ الجَـهْلْ ومنْ الحرمــانْ
وردِّيــتْ عـنـدْ الـحـقيقَهْ وبـابـها الـمـقفــولْ
وحـاولـتْ أفـتَـحْ قـفِـلها ورفـضَـتْ الـبـيبانْ
ولـلـحـيـنْ وآنـــا أحـــاولْ فـتـحَـها وآقــــولْ
أكــيـدْ فـــي يــومْ بـقـدَرْ أفـهَـمْ الإنـــسـانْ

يختم سموه بعزم أكيد وإصرار من نوع آخر، فيقول قولاً يشبه قول الرازي:

نهاية إقــــــــــــــــــدام العقول عقالُ
وغاية سعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
وغاية عُقبانا أذى ووبالُ
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيلَ وقالُوا

قارن بين الفلسفتين تجد:

أن الرازي رغم محاولاته الفلسفية وقراءاته الطويلة، فإنه في النهاية وقف أمام الباب المغلق واعترف بعجزه واستسلم للمستحيل.

إصرار

أما الشيخ محمد بن راشد، فرغم أنه لا يزال في حيرة من هذا الإنسان الذي لا يريد أن يتجاوب معه، فإنه لم يغلبه الملل ولا اليأس، بل يزداد إصراراً ويرفض شيئاً اسمه المستحيل، ورغم أنه انكشفت له الكثير من الحقائق، فإنه يحاول مع ذلك رفض الباب المغلق ومحاولة فتح القفل.

وفي اعتقادي أن هذا هو معنى الحديث الذي يقول: «من قامت عليه القيامة وبيده فسيل فليغرسه»، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

شكراً لك يا سيدي؛ لقد أثبت أنك قائد استثنائي، أرسلك الله لتقود العالم من الفشل إلى النجاح، وتُخرج البائس من ظلمات اليأس إلى إشراقات التفاؤل والفلاح،

حلف الزمان ليأتينّ بمثله
حنثت يمينُك يا زمان فكفّرِ

Email