رؤية راشد صنعت مستقبل الطيران في دبي

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

نجحت بريطانيا في الحصول على أول تسهيلاتها الجوية من خلال إنشاء مطار أرضي في الشارقة وتشييد استراحة للركاب وبإيجار شهري بلغ 800 روبية وتم اختيار مكان المطار على بعد كيلومترين جنوب شرق الشارقة، وقد عرف باسم المحطة وكان دخول المسافرين إلى المدينة يستلزم الإذن من الحاكم وتم تجهيز المطار في العام 1932 وحطت اول طائرة بريطانية في ذلك المطار في اكتوبر من العام نفسه وهي طائرة من طراز هاندلي بيج اتش بي 42 وكانت تحمل 24 راكبا.

 أما في دبي فإن الشيخ سعيد كان مترددا في البداية من اقامة مطار في دبي خشية من تزايد النفوذ البريطاني، لكنه سرعان ما أعطى الموافقة المبدئية ووقعها بالفعل في العام 1933 وتم إنشاء أول مهبط للطائرات المدنية على الماء، حيث شهد سكان الإمارة في العام 1936 هبوط اول طائرة مائية على مياه الخور، وفي العام التالي كانت الخطوط الامبراطورية قد بدأت خدمتها الجوية في طريقها إلى الهند وشملت محطات التوقف كلاً من الاسكندرية والبصرة وبغداد والبحرين، وأضيفت إليها لاحقا دبي التي باتت محطة ترانزيت حيوية لنقل المسافرين عبر أجواء المنطقة.

 وتبع ذلك اتفاقية وقعها الشيخ سعيد يسمح للخطوط الجوية البريطانية باستخدام جزء مساحته 1800 ياردة من خور دبي كمهبط مائي اضافة إلى مرافق التزود بالوقود.

وفي 3 اكتوبر 1937 وصلت أول طائرة إلى دبي تابعة للخطوط البريطانية من طراز كاليبسو وعلى متنها 28 مسافرا قادمة من ساوثهامبتون إلى كراتشي ومنها إلى دبي وحطت في مياه الخور مقابل ملعب الجولف الحالي، مفتتحة بذلك رسميا أول رحلة تجارية منتظمة إلى دبي. واعتبارا من ذلك الشهر كانت طائرتان مائيتان تمران عبر مهبط دبي اسبوعيا. وكان هبوط تلك الطائرات يعد من المظاهر غير المألوفة بالنسبة لسكان المدينة.

ورغم ظروف الحرب الثانية إلا أن الاتفاقية تم تجديدها عدة مرات مع حكام الإمارات ومن بينهم الشيخ سعيد، وتم إضافة تأسيس مطار عسكري بريطاني. وهو أمر استفادت منه دبي بعد نهاية الحرب الثانية، حيث بدأت ملامح الانتعاش التجاري على الامارة مع تزايد أعداد الرحلات التي وصلت إلى 466 رحلة قامت طائرات من طراز انساين وداكوتا وسندرلاند.

وبعد الحرب بدأت موجة من الطلب القوي على السفر الجوي مدفوعا بالطلب على التجارة والبحث عن أسواق جديدة وتأسيس الاتحادات العالمية للطيران بما فيها الاياتا.

 رؤية الشيخ راشد العصرية

 مع بدايات الأربعينيات من القرن العشرين بدأ الشيخ سعيد يترك المجال لنجله الشيخ راشد الذي كان يشغل منصب نائب الحاكم كي يتبوأ دوره القيادي. وكان على الشيخ راشد مواجهة تحديات ما بعد الحرب.

وكانت أجندة الشيخ راشد مزدحمة بفعل الخطط التي كان ينوي تنفيذها لخدمة الإمارة ومستقبلها الاقتصادي، وكان سموه حريصا على إطلاق مشاريع عدة خاصة ما هو متعلق بالبنية التحتية التي ترتكز عليها الأسس التنموية الحديثة. وبدأ الشيخ راشد سلسلة من الأعمال التي تشمل خور دبي والجمارك والبنوك وغيرها وبناء ميناء راشد في العام 1967.

 وخلال الفترة من 1958 1959 وهي السنة الأولى التي استلم فيها راشد حكم إمارة دبي بدأ فعليا في التخطيط لإنشاء اول مطار في دبي لخدمة سكانها ومصالحها الاقتصادية، حيث ان نصف ميزانية الإمارة كانت مخصصة لمشروعين ضخمين هما مطار دبي والخور، وتم تخصيص اكثر من 200 ألف روبية كميزانية للمطار وحده.

وبدأت دبي تتصدر إمارات الساحل في الخمسينيات بعد ان استفادت من انفتاحها التجاري على العالم بفضل امتلاكها لميناء حيوي ونشاطها في مجال إعادة التصدير ونمو تجارة الذهب في الإمارة الذي عجل بإنشاء المطار بعد ان نجحت دبي في مشروع تعميق الخور وجنت منه فوائد اقتصادية عديدة.

 بين الزرقتين

 أدرك الشيخ راشد أن زرقة المياه في خور دبي التي استجابت لطموحاته في زيادة إيرادات الإمارة يتعين عليها التناغم مع زرقة اخرى في السماء والتي لن تنجح دون اكتمال إنشاء المطار الجديد، وبدأ الشيخ راشد مفاوضاته مع البريطانيين لهذا المشروع الكبير وهي فكرة كانت تراود الشيخ راشد منذ الخمسينيات قبل ان يتولى الحكم في الإمارة.

 ورغم الرفض البريطاني في البداية إلا أن الشيخ راشد كان مصمما على إنشاء المطار وحاول البريطانيون إقناع الشيخ راشد بفكرة موقع جديد للمطار في جبل علي، لكن الشيخ راشد رفض الفكرة لبعده عن المدينة والخور بالذات وعدم توفر مقومات نجاحه. وكان على الشيخ ان يتحرك بقوة والتي توجها بزيارة إلى بريطانيا في العام 1959 وتمكن من إقناع السلطات البريطانية بإنشاء المطار في دبي.

 وتم البدء بإعداد الخرائط للمطار الجديد مع تحديد موقعه الذي يبعد ميلين من دبي بجانب ديرة وسيمتد المدرج ما بين 1500 و2000 ياردة وبعرض 35 ياردة.

 10 سبتمبر بدء العمل

 وبدأ العمل في مطار دبي في 10 سبتمبر من العام 1959 بعد موافقة الشيخ راشد على التكلفة والتفاصيل الفنية، وكان سموه يشرف بنفسه يوميا على أعمال البناء وسارت أعمال البناء بوتيرة متسارعة وسط حالة من الترقب من قبل التجار.

وكان سبق تلك الأعمال قيام سموه بتأسيس وكالة دناتا للسفريات في العام 1959 بهدف خدمة حجوزات السفر والخدمات الأخرى للمسافرين وتألفت دناتا من قسمين في البداية أحدهما مخصص لخدمات المطار والآخر بأعمال السفريات وتم تنظيم دورات تدريبية من قبل الخطوط البريطانية للموظفين وكانت دناتا ثاني وكالة سفريات بعد شركة كانو التي تأسست في العام 1946.

وعلى هامش العمل تم توقيع اتفاقية مع شركة بي بي لتزويد الطائرات بالوقود وزيوت التشحيم بعقد حصري مدته 15 عاما. وانتقل الشيخ راشد لإنجاز كافة الترتيبات القانونية والفنية الخاصة بادارة وتشغيل المطار قبل افتتاحه ووقع جملة من الاتفاقيات في هذا الاتجاه تشمل إدارة المطار وخدمات الحركة الجوية والاتصالات والانقاذ.

ومع بزوغ فجر 15 مايو 1960 وبعد حوالي 9 شهور من العمل اكتمل بناء المدرج وبدأت الاستعدادات لإجراء التجارب الاولية بعمليات اقلاع وهبوط تجريبي للتأكد من سلامة الأرضية وصلاحيتها.

 30 سبتمبر 1960 أول مطار

 في 30 سبتمبر من العام 1960 بدأت دبي مسيرتها الظافرة نحو عالم الطيران مع افتتاح مطار دبي الدولي الذي كان حدثا مهيبا ينتظره الجميع. ودشنته طائرة تابعة لشركة الخطوط الجوية اللبنانية «ميدل ايست» من طراز كوميت 4.

 وبعد احتفال كبير ضم اكثر من 3000 شخص انطلق العمل في المطار الذي كان يعمل بواقع 6 ساعات يوميا بين الساعة 7 صباحا والواحدة من بعد الظهر لاستقبال الطائرات ويتم اغلاقه بعد ذلك إلا في حالات الضرورة القصوى. وشكل افتتاح مثل هذا المشروع المفصلي وانتهاج دبي لسياسة الأجواء المفتوحة مسار دبي للتحليق في عالم الطيران.

ويقول محمد أهلي الذي كان يعمل في المطار آنذاك وهو اليوم مدير عام هيئة دبي للطيران المدني، ان عملية هبوط الطائرة على مدرج المطار كانت قصة مختلفة تستحق ان تروى، ففي البداية لم يكن هناك مولدات كهربائية أو أنظمة متطورة للإضاءة وكان موظفو دناتا يستخدمون نوعا من المصابيح القديمة وهي عبارة عن شمعة زيتية يتم إشعال فتيلها ومن ثم وضعها في خط مستقيم على جانبي المدرج الرملي لمساعدة الطيار على الرؤية والهبوط بسلام.

 المطار وتنشيط التجارة

 لم يمض وقت طويل على تشغيل المطار حتى بدأت الارقام تتكلم لتوضح أهمية المطار بالنسبة للحركة التجارية ووصل عدد المسافرين الذين استخدموا مطار دبي في نهاية العام 1961 أي بعد 15 شهرا من افتتاحه إلى 33 ألفا و 200 مسافر وعدد الرحلات القادمة والمغادرة والعسكرية والبريد إلى 1004 رحلات أي بمعدل 3 رحلات يوميا.

 ويؤكد جمعة الماجد أهمية الدور الذي لعبه المطار بالقول «ساهم المطار ومنذ افتتاحه في استقطاب شركات الطيران وتسهيل سفر الناس وقدوم التجار والعاملين من مختلف أنحاء العالم إلى دبي وتنشيط الأسواق التجارية خاصة السوق القديم».

ويمكن القول إن دبي دخلت عقد الستينيات من القرن الماضي وهي افضل حالا مما كانت عليه في بداية الخمسينيات وتوفرت لديها خدمات البنية الأساسية من مياه وكهرباء وخدمات الشرطة والبلدية وبدأ توافد الشركات الاجنبية عليها وافتتاح فرع المصارف والخدمات بفعل التسهيلات التي وفرها المطار الجديد. ووفقا للتقرير الاقتصادي الوارد في وثائق الأرشيف البريطاني فإن دبي حققت المزيد من التقدم ووسعت أرصفة الميناء ووفرت أماكن للتفريغ.

 مشاريع توسعة في 1968

 شكل العام 1968 نقطة تحول جديدة في المطار، حيث وافق الشيخ راشد على مشاريع التوسعة في المطار التي شملت بناء صالة صغيرة للمسافرين المغادرين ملحقة بمبنى المطار الذي أصبح مخصصا للقادمين فقط لغرض كبار الشخصيات ورجال الأعمال، كما شملت التوسعة أيضا بناء مرافق أخرى لاستقبال طائرات الشحن التي بدأ عددها يزيد وتعبيد المساحات بالأسفلت، ومشروعا ثالثا لإنشاء قسم جديد لوسائل الاتصال والمعلومات الخاصة بالرحلات، أما الرابعة فهو إنشاء مبنى صغير لتلبية احتياجات المطار بالنسبة للشحن.

 طموحات لا حدود لها رغم التحديات

 النمو المتسارع لدبي مع تسارع خطط الشيخ راشد بتحويل دبي إلى مركز تجاري إقليمي واجهت صعوبات مع محدودية حركة الرحلات الجوية من وإلى الإمارة التي بدأت تتطلع إلى شركة طيران خاصة تلبي طموحاتها العالية.

وكانت دبي ومنذ الستينيات تمتلك هذه الخطط على الورق لإنشاء خطوط «طيران دبي» يملكها القطاع الخاص بصلاحيات واسعة، لكن هذه المخططات بقيت ورقا باعتبار ان دبي مخدومة حاليا من قبل الشركات الأخرى. ومع ظهور النفط ومطلع عام 1962 واصلت دبي مسيرة النمو وتعزيز مكانتها التجارية.

وأدى الازدهار التجاري بعد عام 1964 في جذب الخبرات العالمية وانطلاق مشاريع البنية التحتية من جسور وطرق وآلاف العمال الذين كانوا يعملون فيها، وهذا ترتب عليه زيادة المسافرين عبر مطار دبي، حيث ارتفعتأعدادهم إلى 46 ألفا و400 مسافر وعدد الرحلات إلى 1343 رحلة، الأمر الذي استدعى تغيير المدرج الخاص بالمطار بمدرج جديد من الاسفلت مكن المطار من استقبال الطائرات الكبيرة في ذلك الوقت. من أمثال بوينغ 707 وسي 10 وغيرها.

 رحلات

 كما اتجه المطار إلى استقبال الرحلات الليلية بعد عام 1966 والقادمة من عواصم عربية واجنبية عدة حيث تم تزويد المطار بإضاءة حديثة وخلطة أسفلتية وتعبيد الطرق المؤدية إليه وبدأ الناس بالفعل في التعرف على السفر بالطائرة في هذه المنطقة، واتضح ان مطار دبي وخلال ست سنوات فقط بات وجهة مفضلة لشركات الطيران العربية والدولية نتيجة التطوير المستمر في مرافقه وخدماته.

وأصدر الشيخ راشد تعليماته لإتاحة الفرصة امام طلاب المدارس للالتحاق بالدوائر الحكومية ومن ضمنها المطار الذي يشكل نوعية جديدة من الأعمال في ذلك الوقت.

Email